قد ذكرنا أنه بويع له في رجب من السنة الماضية، وذكرنا أنه ماأقامه إلا السلطان الظاهر بيبرس، وأقام بركة، وسافر به إلى الشام، وجهزه من الشام إلى بغداد، وأنه لما عبر الفرات بمن معه من العسكر ظن أن التتار قد انتزحوا عن العراق، وفارقوها على عادتهم أنهم يخربون ويذهبون ولا يقيمون، ولم يدر أنهم في البلاد، فسار على ما هو عليه، واتصل بالتتار قدومه لأخذ الثأثر، فجردوا إليه عسكرا صحبة هلاجو وأُزدان، فأدركوه وقد بلغ عانا، فحاربوه حربا عوانا، فصابرهم جهده، وثبت لصدمتهم وكده، ثم تكاثرواعليه وتبادروا اليه، فلم يكن له قبل بكثرتهم ولا طاقة بمنعهم لمنعتهم، فأخذته السيوف وأدركته الحتوف، فمات شهيدا وتولى حميدا، وقتل أكثر من كان معه، وتفرق من نجا بنفسه، وكان قتله في ثالث المحرم من هذه السنة أعنى سنة ستين وستمائة.
وقد ذكر بيبرس وفاته في السنة الماضية، والصواب ما ذكرناه.
وشغرت البلاد من الخليفة العباسى إلى ان قدم أبو العباس أحمد بن الأمير أبي على القبى بن الأمير على بن الأمير ابي بكر بن الإمام المسترشد بالله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد من بلاد الشرق، وصحبته جماعة من رؤوس تلكا لبلاد، وقد كان شهد الوقعة في صحبة المستنصر بالله المقتول، وهرب هو في جماعة من المعركة، فسلم، وتوجه إلى الديار الشامية طالباً الديار المصرية، فحضر إلى القاهرة في السابع والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، ويوم دخوله تلقاه السلطان الملك وسر به، وأكرمه وعظمه، وأنزله في البرج الكبير بقلعة الجبل، وأجرى عليه الأرزاق الدارة والإحسان، ولم يحصل له بيعة إلا في سنة إحدى وستين وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
منها: أخذه الشوبك من الملك المغيث بن الملك العادل الصغير.
ولما عاد السلطان من الشام إلى الديار المصرية في السنة الماضية جرد الأمير بدر الدين الأيدمرى ومعه جماعة، ولم يعلم أحداً جهة مقصده، لأن الملك الظاهر كان حازماً في أمره، كأنما لسره مقتدياً بقول القائل:
إذا ضاق صَدرُ المرءِ عن سرّ نفسه ... فصَدْرُ الذي يَستودعُ السَّر أضْيَقُ
فسار الأمير المذكور ومن معه إلى الشوبك، وتسلمها يوم الأحد وقت العصر في العشر الأواخر من شهر ذي الحجة، ورتب فيها سيف الدين بلبان المختصى والياً، واستخدم بها النقباء، والجاندارية، وأفرد لخاص القلعة ما كان مفرداً لها في الأيام الصالحية.
ولما أخذها السلطان كان عند المغيث جماعة من الشهرزورية، فاعتمدوا الغارة على بلادها، فجرّد السلطان إليهم من يردّهم، وشرع في تجهيز عسكر إلى الكرك، فسير المغيث بن العادل يلتمس العفو عنه من السلطان، ثم أرسل يستعطف السلطان، فأجابه، وأقطعه دبيان، واستأمنت الشهر زورية إلى السلطان، فأمنهم وعفا عنهم، وأعطى بعضهم الإقطاعات.
ومنها: أن في ذي القعدة قبض الملك الظاهر على نائبه بدمشق وهو علاء الدين طيبرس الوزيرى، وكان قد تولى دمشق بعد مسير الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار عنها.
وسبب القبض عليه أنه بلغ الملك الظاهر عنه أمور كرهها، فأرسل إليه عسكراً مع عز الدين الدمياطى وعلاء الدين الركنى وغيرهما من الأمراء، فلما وصلوا إلى دمشق، خرج طيبرس للقائهم، فقبضوا عليه، وقيدوه، وأرسلوه إلى مصر، فحبسه الملك الظاهر، واستمر في الحبس سنة وشهرا، وكانت مدّة ولايته بدمشق سنة وشهرا أيضاً.
وكان ردىء السيرة في أهل دشمق، حتى نزح منها جماعة كثيرة من ظلمه، وقيض الله عليه من جازاه بمثله، ثم أطلقه فيما بعد، وأحسن اليه، وأعطاه إمرة وقربة وأدناه، ولما أرسل إلى القلعة مقيدا أقام بدمشق الأمير علاء الدين أيدغدى الحاج الركنى إلى أن عين السلطان لها الأمير جمال الدين أقوش النجيبى، وأرسله إليها في هذه السنة، فولى بها نيابة السلطنة مدّة: وكان جمال الدين هذا من أكابر الأمراء.
واستوزر بدمشق عز الدين بن وداعة.
ومنها: أن السلطان جرد الأمير عزالدين أمير جاندار إلى الصعيد ليردع العربان، فإنهم كانوا قد طمعوا بتغير الممالك ونافقوا وقتلوا عز الدين الحواش والى قوص، فحسم مادتهم وبدد شملهم.