قال بيبرس: وكان رحيل المعزّ في بقية العساكر ثالث ذي القعدة من هذه السنة، ووصل الملك الناصر بمن معه من العساكر إلى كراع وهى قريبة من العباسة والسَّدير، وتقارب ما بين العسكرين، فمال من كان مع الناصر من مماليك أبيه العزيز إلى الترك الذين بمصر للجنسيّة، فرحل المعز أيبك ونزل قبالة الناصر بَسمُوط، والتقوا في يوم الخميس عاشر ذي القعدة، فكانت الكسرة أولا على عسكر مصر، وولوا منهزمين، وثبت المعز ايبك في جماعة من البحرية، وانحاز إلى جانب، وبقى الملك الناصر تحت السناجق في جمع من العزيزية، فخامروا وانضافوا إلى المعز أيبك فحمل على الطلب الذي فيه الملك الناصر، فولَّى منهزما طالبا الشام في جماعة من خواصّه، وأخذت سناجقه والطبلخاناة التى له، وقصد المعز أيبك الأطلاب الشاميَّة، فوقع بالطلب الذي فيه شمس الدين لؤُلؤ، فحمل عليهم، وبدَّدَ شملهم، وأُتى به إليه، فأمر بضرب عنقه، فضربت، وأتى بالأمير ضياء الدين القيمرى، فضربت عنقه، وأتى بالملك الصالح عماد الدين إسماعيل فسلم عليه الملك المعزّ، ووقف راكبا إلى جانبه، وأُسر الملك الأشرف صاحب حمص، ونُصْرَة الدين، والمعظم فخر الدين ابنا صلاح الدين يوسف.

وأما العسكر المصريون المنهزمون، فإن الهزيمة استمرت بهم، ولا يعلمون ما تجدد بعد ذلك، ووصلوا القاهرة غد هذا اليوم، وهرب بعضهم إلى الصعيد، وخطب ذلك اليوم للملك الناصر يوسف صاحب حلب بالقلعة وجامع مصر، وأما القاهرة فلم يقم بجامعها خطبة وتوقفوا ليتحققوا.

ووصل معظم العسكر الشامى إلى العباسة في إثر المصريين، ولا يظنون إلا أن الكسرة قد تمت على المصريين: وزال أمرهم بالكلية، وهم ينتظرون وصول الملك الناصر ليدخلوا معه القاهرة، ثم جاءهم الخبر بما جرى من هرب الملك الناصر؛ وقتل شمس الدين لؤلؤ والقيمري، وأَسر من أَسر، فاختلفوا فيما يعتمدون عليه، وكان في الجيش تاج الملوك ولد المعظم بن صلاح الدين وهو مجروح، وحاروا فيما يفعلون.

وفي نهار الجمعة حادى عشر ذي القعدة وردت البشائر بانتصار المعزّ وانكسار الناصر، وكان بقلعة الجبل ناصر الدين بن يغمور استادار الملك الصالح عماد الدين إسماعيل؛ وأمين الدولة أبي الحسن غزال وزيره محبوسين من أيام الملك الصالح نجم الدين، فلما بلغهما انتصار الناصر وكسر العسكر المصرى خرجا من الحبس وأظهرا السرور، ثم لما تحقق نصر المعز أيبك أُعيدا إلى السجن، ونودى في آخر هذا اليوم، وهو يوم الجمعة المذكور، بإظهار الزينّة.

وعاد الملك المعزّ والبحرية والعساكر المصريَّة ومَن انضَّم إليهم من العزيزية على غير طريق العباسة خوفا من النصاريَّة النازلين عليها، ووصلوا إلى القاهرة بكرة يوم السبت ثانى عشر ذي القعدة ودخل المعزّ أيبك، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل قدامه في الموكب تحت الاحتياط فاعتقله بقلعة الجبل في دار، واعتقل الأشرف صاحب حمص والمعظم تورانشاه وأخوه في حبس القلعة، وشنق ناصر الدين بن يغمور، وأمين الدولة الوزير على باب القلعة، ثم أخرج الملك الصالح عماد الدين إسماعيل خارج القلعة من جهة القرافة، فقتل ودفن هناك، وكان مقتله في ليلة الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة.

وفي المرآه: لما أسروا شمس الدين لؤلؤ، وجاؤوا به إلى بين يدى الملك المعز، قال حسام الدين بن أبي علىّ: لا تقتله لتأخذ به الشام. وقال أقطاى: هذا الذى يأخذ مصر بمائتي قناع، قد جعلنا مخانيث، فضربوا عنقه.

وأما الملك الناصر فإنه لما كسر، كَسَرت العزيزيَّة سناجقة، وكَسرُوا صناديقه، ونهبوا ماله، وَرَموه بالنشَاب، فأخذه نوفل البدوى وجماعة من مماليكه وأصحابه، وساروا به إلى الشام، ومات تاج الملوك من جراحة كانت به، فحمل إلى القدس ومات به، وضرب الشريف المرتضى في وجهه بالسيف ضربة هائلة عرضا، وأرادوا قتله، فقال: أنا رجل شريف ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركوه.

قال السبط: وحكى لى قال: بقيتُ في الرمل يوماً وليلةً ملقى، رأسى ناحية ووجهى ناحيةً، والدماءُ تفيض، ولولا ان الله تعالى منَّ علىَّ بالملك الصالح ابن صاحب حمص لهلكت، حملنى وخيَّط وجهى بمسَال، وعاينتُ الموتَ مراراً، وتمزَّق الناس كل ممزَّق، ومشوا في الرمال أيّاماً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015