ومنها: أن الأمراء وأرباب الدولة اتفقوا على هدم أسوار دمياط وتخريبها ومحو آثارها، لما اتفق من قصد الفرنج لها مرة بعد أخرى، لأنهم قصدوها في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وكادوا يملكونها، وفى أيام الملك الكامل وحاصروها أكثر من سنة وملكوها، وفي أيام الملك الصالح نجم الدين، وجرى ما ذكرناه، فهدموها وبنيت مدينة قريبة منها سميت المنشية، وهى المدينة يومنا هذا.
ومنها: أن الملك الناصر يوسف صاحب حلب قبض على الملك الناصر داود ابن المعظم وحبسه في حمص، وذلك أنه كان قد قدم دمشق في خدمة الناصر يوسف، فبلغه عنه ما أوجب القبض عليه، فقبض عليه وسيَّره إلى حمص تحت الاحتياط، فاعتقل في قلعتها، وكان قد وعده وعوداً جميلة فلم يُنجز له منها شيئاً، فلما أيس منه طلب منه دستوراً ليمضى إلى بغداد، فأعطاه الدستور، فلما خرج إلى القُصَيْر قبض عليه في مستهلّ شعبان من هذه السنة، ووصل حريمه وأولاده من مصر، وكان له عشرة أولاد ذكورا وثلاث بنات، فأنزلوا في دمشق.
ولما اعتقل بحمص نظم قصيدة مَطْلعًهَا:
إلهى أنت أعل وأعْلَمُ ... بحقُوق ما تُبدى الصدورُ وتكْتمُ
وأنت الذى تُرْجى لكلّ عظيمة ... وتخشى وأنت الحاكمُ المُتحَكُّم
إلى علمك العلوى أشكو ظلامتي ... وهل بسواك يُنْصَفُ المتَظلّمُ
أبت خيانان العشيرة معْلنّا ... إلى مّن بمكنون السرائر يَعْلَمُ
أتيتهُمُ مُستَنصّراً متحرَّما ... كما يفعلُ المستَنصْرُ المتحَرّمُ
فلما أيسْنَا نصَرهَم ونوالَهم ... رمونا بإفك القول وهو مُرَجَّمُ
أغثنا أغْثنا من عدانا يكُن لنا ... بك النْصرُ حتى يخذلوا ثم يُهزموا
فنصرك مجعولٌ لنا مَعَجلٌ ... وبرّك معلوم بنا فهو مُعلَم
المصرية: وفيها: سار الملك الناصر المذكور بعساكره من دمشق وصحبته، من ملوك أهل بيته، الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب، وهو خال أبيه، والأشرف موسى صاحب حمص، كان وهو يومئذ صاحب تلّ باشر والرحبة وتدمُر، والملك المعظم فخر الدين تورانشاه بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومقدم جيشه الأمير شمس الدين لؤلؤ وإليه تدبير المملكة.
وفي المرآة: وكان سير الملك الناصر قاصداً الديار المصرية بإشارة شمس الدين لؤلؤ المذكور، فإنه لحَّ في القضيَّة لحاحا كان سببا لحضور المنيَّة، وكان يستهزىءُ بالعساكر المصرية ويقول: آخذها بمائتى قناع.
وكان رحيلهم من دمشق يوم الأحد منتصف رمضان من هذه السنة، ولما وصلت الأخبار بذلك إلى الديار المصرية انزعج الملك المعز أيبك التركماني ومن معه من البحرية والترك لذلك وأجمعوا على لقاء الملك الناصر ومحاربته ودفعه عن الديار المصريَّة، وقبضوا على جماعة من الأمراء اتهموهم بالميل إلى الناصر، وتجهزوا، وخرجوا من القاهرة في شهر شوال، وبرزوا إلى السَّانح، وتركوا السلطان الملك الأشرف موسى بقلعة الجبل، واستناب المعز بالديار المصرية الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارى، وأفرح عز الدين أيبك عو ولدى الصالح إسماعيل، وهما: المنصور إبراهيم والسعيد عبد الملك ابنا الصالح إسماعيل، وكانا معتقلين من استيلاء الملك الصالح نجم الدين أيوب على بعلبك، وخلع عليهما، ليتوهَّم الملك الناصر صاحب حلب من أبيهما الصالح إسماعيل.
ولما خرجوا وصل أولهم إلى السانح، ونزلوا بالصالحية، وقوى الإرجاف بوصول الملك الناصر ودخوله الرمل.