ولما بلغ الناصر وهو بغزة ما جرى من كبسة التتار لنابلس رحل من غزة إلى العريش، وسير القاضى برهان الدين بن الخضر رسولاً إلى الملك المظفر صاحب مصر يطلب منه المعاضدة، ثم سار الملك الناصر والمنصور صاحب حماة والعسكر، ووصلوا إلى قطْية، فجرى بها فتنة بين التركمان والأكراد الشهرزورية، ووقع نَهْب في الحال، وخاف الملك الناصر أن يدخل مصر فيقبض عليه، فتأخر في قطية، ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وتأخر مع الملك الناصر جماعة منهم أخوه الملك الظاهر غازي، الملك الصالح بن شيركوه صاحب حمص، وشهاب الدين القيمرى، ثم سار الملك الناصر من قطية بمن تأخر معه إلى جهة تيه بنى إسرائيل.
فلما وصلت العساكر إلى مصر إلتقاهم الملك المظفر قطز بالصالحية وطيب قلوبهم، وأرسل إلى الملك المنصور صاحب حماة سنجقا، والتقاه ملتقى حسنا، وطيب قلبه، ودخل القاهرة.
وفي تاريخ النويرى: ولما كان الناصر بدمشق وبلغ إليه قصد التتار حلب برز من دمشق إلى برزة في أواخر السنة الحالية، وجفل الناس بين يدى التتار، وسار الملك المنصور صاحب حماة إلى دمشق، ونزل مع الناصر ببرزة، وكان هناك مع الملك الناصر بيبرس البندقدارى من حين هرب من الكرك، وإلتجأ إلى الناصر يوسف، واجتمع مع الملك الناصر على برزة أُمم عظيمة من العساكر، ولما دخلت هذه السنة والملك الناصر ببرزة بلغه أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله والفتك به، فهرب من الدهليز إلى القلعة يعنى قلعة دمشق وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم هربوا على حمية إلى جهة، وكذلك سار بيبرس البندقدارى وجماعته إلى غزة، وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الملك الناصر، وإنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه ويسلطنوا أخاه الملك الظاهر غازى بن الملك العزيز بن الملك الظاهر غازى بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لشهامته، ولما جرى ذلك هرب الملك الظاهر المذكور خوفاً من أخيه الناصر يوسف، وكان الظاهر المذكور شقيق الناصر، أمهما أم ولد تركية، ووصل الملك الظاهر إلى غزة، واجتمع عليه من بها من العساكر وأقاموه سلطاناً.
ولما جرى ذلك كاتب الملك المظفر قطز صاحب مصر بيبرس البندقدارى، وبذل له الأمان، ووعده الوعود الجميلة، ففارق بيبرس البندقدارى الشاميين، وسار إلى مصر في جماعة من أصحابه، فأقبل عليه الملك المظفر قطز وأنزله في دار الوزارة، وأقطعه قليوب وأعمالها.
وأما الملك الناصر يوسف فإنه لما انفرد عن العسكر من قطية كما ذكرنا سار إلى تيه بنى إسرائيل، وبقى متحيرا إلى أين يتوجه، وعزم على التوجه إلى الحجاز، وكان له طبردار كردى اسمه حسين، فحسَّن له المضى إلى التتار، وقصد هلاون فاغتر بقوله، ونزل بركة زيزا، وسار حسين الكردي إلى كتبغانوين نائب هلاون، وهو نازل على المرج، وعرفه بموضع الملك الناصر، فأرسل كتبغانوين إليه وقبض عليه وأحضره إلى مدينة عجلون، وكانت بعد عاصية، فأمر الملك الناصر بتسليمها، فسلمت إليه فهدموها وخربوا قلعتها أيضاً.
وكان بالصُبَيبة الملك السعيد بن الملك العزيز بن الملك العادل، سلَّم الصبيبة إليهم وسار معهم وأعلن بالفسق والفجور وسفك الدماء.
وأما الملك الناصر يوسف فإنه لما اجتمع بكتبغانوين، بعث به كتبغا إلى هلاون، وهو على حلب بعد، فلما عاين الناصر حلب وما حل بها وبأهلها بكى وأنشد:
سقى حلب الشهباءَ في كل بُقعة ... سحائب غيثٍ نوؤُها مثل أدْمعى
فتلك مرامى لا العقيق ولا اللوَى ... وتلك ربوعى لا زرودٌ وأملع
ولما بعد عنها قليلاً أنشد:
ناشدتك الله يا هطالة السُحُبِ ... إلا حملتِ تحيَّاتى إلى حلبِ
لا عُذْر للشوق أن يمشى على قدرٍ ... ماذا عسى يبلغ المشتاق في الكُتب
أحبابنا لو درى قلبي بأنكم ... تدرون ما أنا فيه لذ لى تعبى
ثم بكى بكاء طويلاً وأنشد:
يعز علينا أن نرى ربعكم يَبْلَى ... وكانت به آيات حسنكم تُتْلَى
لقد مرّ لي فيها أفانين لذّة ... فما كان أَهْنَى العيش فيها وما أَحْلَى
أأحْبابنَا والله ما قلتُ بعدكم ... لحادثة الأيام وقفاً ولا مَهْلاَ