وصاحب دمشق وحلب وغيرهما: السلطان الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز بن الملك الظاهر بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، والحرب قائمة بينه وبين المصريين، ولكنه رجع عن ذلك لكثرة الأراجيف بقصد التتار الديار الشامية، حتى أنّ هلاون أرسل إلى الناصر المذكور يستدعيه إليه، فأرسل الناصر ولده العزيز، وهو صغير، ومعه هدايا كثيرة وتحف سنية، فلم يحتفل به هلاون، وغضب على إبنه؛ إذ لم يقدم إليه أبوه، وقال: أنا الذي أسير إلى بلاده بنفسى، فانزعج الناصر لذلك، وبعث بحريمه وأهله إلى الكرك، ليحُضهم بها، وخاف أهل دمشق خوفاً شديداً حين بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات، وصار منهم جماعة كثرة إلى الديار المصرية في زمن الشتاء، ومات كثير منهم، ونُهِبَ آخرون.
وأقبل هلاون بجنوده يقصد نحو الشام، ونازل حران وملكها، واستولى على البلاد الجزرية، وأرسل ولده شموط بن هلاون إلى الشام، فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، وكان الحاكم في حلب يومئذ الملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين نائباً عن ابن ابن أخيه الملك النصار، فخرج في عسكر حلب لقتالهم، ولم يكن من الرأى خروجه، وأكمن لهم التتار في باب إلىّ المعروف بباب الله، وتقاتلوا عند بانقُوسا، فاندفع التتار قدامهم حتى خرجوا عن البلد، ثم عادوا عليهم، وهرب المسلمون طالبين المدينة، والتتار يقتلون فيهم حتى دخلوا البلد، واختنق جماعة من المنهزمين في أبواب البلد، ثم رحل التتار إلى عزاز فتسلموها بالأمان.
وكان الملك الناصر قد أرسل قبل ذلك القاضى الوزير كمال الدين عمر بن أبي جرادة المعروف بابن العديم إلى الديار المصرية رسولاً يستنجد المصريين على قتال التتار، فإنهم قد اقترب قدومهم إلى الشام، وأنهم قد استولوا على حران وبلاد الجزيرة وغيرها في هذه السنة، وقد جاز شُّموط بن هلاون الفرات واقترب من مدينة حلب.
فعقد لذلك مجلس بالديار المصرية بين يدى الملك المنصور بن الملك المعز أيبك التركمانى، وحضر قاضى القضاة بالديار المصرية بدر الدين السنجارى، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأفاضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شىء من أموال الناس لمساعدة الجند، وكانت العمدة على ما يقوله ابن عبد السلام، فكان حاصل كلامه أنه قال: إذا لم يبق في بيت المال شىء، وأنفقتم الحوائص الذهب وغيرها من الزينة، وتساويتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبقى للجندى سوى فرسه التي يركبها، ساغ أخذ شىء من أموال الناس في دفع الأعداء، إلا أنه إذا دهم العدوّ وجب على الناس كافة أن يدفعوهم بأموالهم وأنفسهم.
ثم أن الملك الناصر برز إلى وَطاة برزة في جحافل كثيرة من الجيش والمطوعة والأعراب وغيرهم، ولما سمعوا ما فعل شموط بن هلاون على حلب، وعلموا ضعفهم عن مقاومة المغول انقض ذلك الجمع، ولم يصبر لاهو ولا هم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
النائب بالديار المصريَّة ولما عقد المصريون المجلس، حين قدم إليهم رسول الملك الناصر صاحب دمشق، وهو كمال الدين بن العديم المذكور، قالوا: لا بُدَّ من سلطان قاهر يقاتل التتار، وهذا صبى صغير لا يعرف تدبير المملكة، يعنى السلطان الملك المنصور ابن الملك المعز، وكان كذلك فإنه كان يركب الحمير الغُرَّة، ويلعب بالحمام مع الخدام.
واجتمع الأمراء الكبار وأعيان العساكر على أنه لا غنى للمسلمين من ملك يقوم بدفعه، وينتدب لمنعه، ويذُبُّ عن حوزة الدين، وذلك لما تحققوا قصد هلاون الديار الشامية، وامتداده إلى ممالك الإسلام، واتفقوا على إقامة الأمير سيف الدين قطز المعزى سلطانا لأنه كبير البيت، ونائب الملك، وزعيم الجيش، وهو معروف بالشجاعة والفروسية، ورضى به الأمراء الكبار فأجلسوه على سرير الملك، ولقبوه الملك المظفَّر.
وكان الأمير علم الدين العتمىّ، وسيف الدين بهادر، وهما من كبار المعزية غائبين في رمى البندق حين تسلطن المظفر، ولما حضرا قبض عليهما واعتقلا.
وكان جلوس الملك المظفر على تخت السلطنة في الرابع من ذي الحجة من هذه السنة بقلعة الجبل.
وكان ذلك كله بحضرة كمال الدين بن العديم، فأعاد قطز الجواب إلى الملك الناصر يوسف بأنه سينجده ولا يقعد عن نُصرته، ورجع ابن العديم إلى دمشق بذلك.