وفي شوال اجتمع نحو خمسمائة من الصوفية، وفيهم شيخ الشيوخ كريم الدين الآملي إلى الحاكم الشافعي، فاشتكوا الشيخ ابن تيمية من كثرة ما ينال من ابن عربي، فلم يثبت من ذلك شيء، وجرى كلام فيما يتعلق بالإستغاثة، فعنفه الحاكم وقال: هذا يعزز، ثم خيرته الدولة بين المسير إلى الإسكندرية أو إلى الشام بشروط، وبين الحبس، فاختار الحبس على ذلك.
فأشار عليه بعض أصحابه بالشام، فاختارها، فأركب على البريد، فلما انفصل لحقه بريدي آخر فرده، ثم أحضره إلى الحاكم الشافعي فقال له: الدولة لا ترضى إلا بالحبس، فأناب القاضي شمس الدين التونسي المالكي. فقال: ما ثبت عليه شيء وامتنع أن يحكم، فأناب نور الدين الزواوي المالكي، فامتنع أيضاً. فقال الشيخ: أنا أمضي بنفسي إلى السجن من غير حكم للمصلحة، فحبس في حبس القاضي - في المكان الذي كان فيه تقي الدين بن بنت الأعز حين سجن - وجعل عنده من يخدمه، وكل ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي، فأقام الشيخ في السجن مدة يستفتيه الناس ويزورونه ويتوالونه ويحبونه.
وقال بعضهم: في شوال اجتمع الشيخ ابن عطا السكوني وشيخ الخانقاة وجميع الصوفية، فكانوا أكثر من خمسمائة نفس وطلعوا إلى القلعة، فلما وصلوها كان هناك جماعة من أرباب الصنائع، فاختلطوا معهم، فصاروا جمعاً كثيراً، فلما رآهم أهل الدولة قالوا لهم: اش مرادكم؟ قالوا: إن تقي الدين بن تيمية تكلم في مشايخ الطريقة وأنه قال: لا ينبغي أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسألوا أن يعقد لهم وله مجلس، فردوا الأمر في ذلك إلى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي، ففوض ابن جماعة إلى القاضي تقي الدين الزواوي المالكي، فاقتضى الحال تسفيره إلى الشام، فسافر مع البريدي، ثم ردوه، وحبس بحبس الحاكم.
وفيها: عقد مجلس بالقصر الأبلق لنجم الدين بن خلكان بحضور نائب السلطنة، وأحضروا مسطوراً كتب عليه بالتوبة في سنة أربع وسبعمائة، وذكروا أنه تجدد منه أمور بعد ذلك واختلفوا في أمره، فبعضهم أشار بقتله وبعضهم رأى ضربه وتعزيزه، ومنهم من جنح إلى استتابته وحبسه عن الناس، والرفق به، وهو الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين، فرسم نائب السلطنة أن يعمل بقوله، وانفصل الحال على ذلك، وكتب عليه مكتوب آخر بالتوبة والإقلاع عما صدر منه من الكلام في المغيبات، ووضع بالمارستان مدة، وأخرج منه وأقام بالنيرب.
وفيها: تولى نيابة غزة الأمير ركن الدين بيبرس العلائي الحاجب، عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا.
وفيها: نزل سيف الدين كراي المنصوري عن إقطاعه وعدته، واستقال من إمرته، واختار الإنقطاع والتخلي عن الإقطاع، وارتجع خبزه، وأعطى للأمير يتخاص ومضى إلى القدس، وأقام ببلاد غزة.
وفيها: نقم طقطا على الفرنج الجنوية الذين بقرم وكفا والبلاد الشمالية، لأمور قيلت عنهم منها: استيلاؤهم على أولاد التتار واستجلابهم إلى هذه الأقطار وغير ذلك، فأرسل جيشاً إلى مدينة كفا وهي مسقط رؤوسهم، فأحسوا بوصولهم فتهيأوا في مراكب في البحر وركبوا وساروا إلى بلادهم، فلم يظفر التتار منهم بأحد، فنهب طقطا أموال من كان منهم بمدينة صراي وما يليها.
وفيها: وقع عزم ولاة الأمور بمصر على تجهيز عسكر إلى اليمن، لأن صاحبها الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن الملك المظفر صلاح الدين يوسف بن رسول منع الهدية التي كانت العوائد جارية بإرسالها إلى الأبواب السلطانية، فبرز المرسوم على أن كل مقدم ألف منهم يُعمر مركباً كبيراً يسمى جلبة، وقياسة لطيفة تسمى فلوة، برسم حمل الأزواد والآلات، وتسفيرها إلى جهة الطور والسويس على الظهر لتركب هناك وتُرمى في البحر وتُسّفر، فاشترك كل مقدم ألف ومضافيه في مركب وقارب، وندب عز الدين أيبك الشجاعي المشد إلى قوص لعمارة هذه المراكب، وانقضت هذه السنة والإجتهاد مستمر في ذلك، على أنه إذا تنجزت الأشغال توجه العسكر المجرد صحبة سيف الدين سلار.