فسأل أعيان الكارم الإمهال إلى أن يتوجه الرسل إلى صاحب اليمن ويعود الجواب، فأمهلوا، وأرسل القاضي شمس الدين بن عدلان والأمير سنقر السعيدي رسلاً إلى اليمن، وكُتب إلى صاحب اليمن كتاب من الخليفة ليتقدم بين يدي البعوث المجهزة بألفاظ مرجزة، وهذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ". " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هُداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبداها، وموفق من اختاره إلى محجة صواب لا يضل سالكها، ولا تُظلم عند اختلاف الأمور مسالكها، ومُلهم من اصطفاه لإقتفاء آثار السنن النبوية، والعمل بموجبات القواعد الشرعية، والإنتظام في سلك من طوقته الخلافة عقودها، وأفاضت على سُدّته الجليلة برودها، وملّكته أقاصي البلاد وأناطت بأحكامه السديدة أمور العباد، وصارت تحت خوافق أعلامه أعلام الملوك الأكاسرة، وشيدت بأحكامه مناهج الدنيا ومصالح الآخرة، وتبختر كل منبر بذكره في ثوب من السيادة معلم، وتهللت من ألقابه الشريفة أسارير كل دينار ودرهم، الذي يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببني العباس منوطة، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة مُحوطة، ويُصلى على ابن عمه محمد الذي أخمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة وذادوا عن مواردها، وعمدوا إلى تشييد المعالم الدينية فأقاموها على قواعدها، صلاة دائمة الغدو والرواح، متصلاً أولها بطرةّ الليل وآخرها بجبين الصباح، هذا وأن الدين الذي فرض الله على الكافة الإنضمام إلى شُعبه، وأطلع فيه شموس هداية تشرق من مشرقه ولا تغرب في غربه، جعل الله حكمه بأمرنا منوطاً، وفي سلك أحكامنا مخروطاً، وقلّدنا من أمر الخلافة المعظمة سيفاً طال نجاده، وكثر أعوانه وأنجاده، وفوّض إلينا أمر الممالك الإسلامية، فإلى حُرمنا تُجبى ثمراتها، ويُرفع إلى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها، يخلف الأسد إذا مضى في غابة شبله، ويلقى في الخبر والخبر مثله.
ولما أفاض الله علينا حُلة الخلافة، وجعل محلنا الشريف محل الرحمة والرأفة، وأقعدنا على سدة خلافة طالما تشرفت بالخلائف من آبائها، وابتهجت بالسادة الغطاريف من أسلافنا، وألبسنا خلعة من ملابس السؤدد مصبوغة، ومن سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغة، أمضينا على سدتنا الشريفة أمر الخاص والعام، وقلدنا كل إقليم من عملنا من يصلح سياستها على الدوام، واستكفينا بالكفاة من عمالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا وبها سدة مقامنا لما كانت في هذا العصر قبة الإسلام، وقبة الإمام، وثانية دار السلام، تعين علينا أن نتصفح جرائد أعمالنا، ونتأمل نظام عمالنا، مكاناً فمكاناً، وزماناً فزماناً، فتصفحناها فوجدنا قطر اليمن خالياً من ولايتنا في هذا الزمن، عرّفنا هذا الأمر من اتخذناه والممالك الإسلامية عيناً وقلباً، وصدراً ولباً وفوضنا إليه من الممالك الإسلامية فقام فيها قياماً ما أقعد الأضداد، وأحسن في ترتيب ممالكها، فهابه الإصدار، وغاته الإيراد، وهو السلطان الأجل السيد الملك الناصر، لا زالت أسباب المصالح على يديه جارية، وسحابة الإحسان من أفق راحته سارية، فلم يعد جواباً لما ذكرناه، ولا عذراً عما أبديناه إلا بتجهيز شرذمة من جحافله المشهورة، وتعيين أناس من فوارسه المذكورة، يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون بتغييرات الأحوال، يرون الموت مغنماً إن صادفوه، وسبا المرهف مكسباً إن صافحوه، لا يشربون سوى الدماء مدامة، ولا يلبسون غير الترايك غمامة، ولا يعرفون طرباً إلا ما أصدره صليل الحسام من غنى، ولا ينزلون قفراً إلا ونبت ساعة نزولهم قنا.