ومنها: أنه وقع ببلاد قاقون وغزة والساحل وما حولها جراد لا يحصى كثرة فجمع الفلاحون منه شيئاً كثيراً، ولم يؤذ الزروع وغيرها.
ومنها ما قال بيبرس في تاريخه: وفي هذا العام شملني الإنعام بأن رُشحت بحمل الجتر السلطاني في المواكب، وهي وظيفة معزوقة بذوي المراتب، فشكرت الله تعالى على ذلك.
ومنها: أن القاضي صدر الدين بن المرحل قدم من دمشق إلى القاهرة، ومعه كتاب نائب الشام إلى الأمير ركن الدين بيبرس، والأمير سيف الدين سلار نائب السلطان، بسبب وظائف كانت بيده وخرجت عنه، وكان هذا الرجل مشهوراً بالفضيلة، والشعر الحسن، والمنادمة الحسنة، وله شهرة بشغفه الشراب، ومنادمة الأكابر، وبهذه الأشياء اتصل بنائب الشام حتى كتب معه في حقه، ولما اجتمع الأمير بيبرس اتفق مبيته عنده تلك الليلة.
قال الراوي: فحكى لي شمس الدين البلخي المؤذن شيئاً من بعض لطائفه، أنه لما بات عند الأمير بيبرس تلك الليلة أحضر إليه الأمير بيبرس بعد العشاء سلطانية كبيرة ملآنة بالسكر وماء الليمون مع بعض السقاة، وكان ذلك الساقي تركياً صاحب وجه حسن، ولكنه كان أجروداً كبيراً في العمر، فلما ناوله المشروب أخذه منه وبهت في وجهه زماناً، ثم التفت إليّ وقال: يا شمس الدين إن هذا شاب مليح. قال: فقلت له: يا مولانا لا يغرك نظر الشمع، هذا كبير ولكنه أجرود، ومع ذلك يا مولانا هو رجل مأبون ما منه خلاف، فقال: وإلي الآن، قلت له: نعم، فشرب منه فأنشأ يقول:
شاب قلبي بشاب من سنى البدر أوجه ... كلما شاب ينحني بيّض الله وجهه
ثم أنه حصل له ما طالع به نائب الشام، فكتب له توقيع بالعدراوية، ودار الحديث، وخطابة الجامع الأموي والإمامة، ثم سافر إلى دمشق، وأوقف نائب الشام على توقيعه، فعلّم عليه، وكان الخطيب إذ ذاك الشيخ شرف الدين الفزاري، وكان قد تولى الخطابة بحكم وفاة الشيخ زين الدين الفارقي.
وكان الناس فرحوا بتولية الشيخ شرف الدين الخطابة لكونه من أهل الصلاح والدين والعلم، فلما بلغ أهل دمشق أن صدر الدين المذكور قد تولى هذه الوظائف المذكورة تعصبوا عليه، واتفقوا أنه إذا حضر وأراد أن يخطب لا يصلون وراءه، وكان حضوره من القاهرة يوم الأربعاء، فصبروا عليه إلى أن كان يوم الجمعة، اجتمعت أكابر دمشق مثل: كمال الدين ابن الزملكاني، وإمام الدين القزويني، وعلاء الدين بن العطار، والشيخ علي الكردي، والشيخ تقي الدين بن التيمية، وأصحابه، وقاضي الشافعية، وقاضي الحنفية، ومنعوا الناس عن سماع خطبته والصلاة خلفه، وكان نائب الشام ركب إلى الجامع للصلاة، فرأى المدينة قد انقلبت إلى أن دخل الجامع، وخرج الشيخ صدر الدين وهو لابس حلة الخطابة، وما لحق أن يصعد المنبر حتى صاحت الناس في وجهه، وخرجت جماعة، فخرجوا من الجامع وهم يصيحون ويقولون: أين الإسلام؟ كيف يجوز أن يكون هذا الرجل خطيب المسلمين وإمامهم، وصدر الدين لم يعلم ما يقال من قوة غلبة الناس والصياح، وما صدّق نائب الشام فراغه من الصلاة وسكون الحال حتى خرج وركب إلى دار السعادة، فحضرت إليه القضاة وابن تيمية والمشايخ، وقد نظموا محضراً على صدر الدين، وشهدوا عليه فيه أنه رجل فاسق يشرب الخمر، وأن الصلاة خلفه لا تجوز، وقرىء المحضر بحضرته.
ورأى نائب الشام أنه لا يقدر على دفع هؤلاء، وعرف أن هذا الأمر لا يتم لصدر الدين، فمشى في طوعهم، وقال: أنا ما وليت هذا الرجل، وإنما جاب توقيعاً سلطانياً، وأنا امتثلت ما رُسم به، وعلّمت على توقيعه، وأنا أطالع السلطان فيه، فمهما رسم به اتبعناه، وكتب من وقته وعرّف للسلطان وللأمراء ما وقع من الأمر، وبقي صدر الدين يصلي بالجامع، ولكن أكثر الناس لا يصلون وراءه، ويصلون في الكلاّسة وغيرها إلى أن ورد الجواب أن يتبع ما يقوله القضاة وأهل الشرع، فإذا لم يختاروا صدر الدين يستقر من كان قبله، فطلب نائب الشام أكابر دمشق والقضاة، واستقر بشرف الدين الفزاري في الإمامة والخطابة، وهرعت الناس إليه، وكان حسن الصوت، فخطب خطبة في العزل والولاية، وكان يوماً مشهوداً.