كان ناصر الدين هذا متولي القاهرة، ثم انتقل إلى ولاية الجيزية، ففي ولايته على الجيزية تعاظم على الوزير وعلى المباشرين لقوة حرمته، وما كان أحد منهم يجسر عليه، وقلّ متحصل أرباب الأقلام في أعمال الجيزة، فاتفق رأيهم مع الوزير أن يثبتوا في حقه وفي حق مماليكه أموالاً سلطانية، فسعى الوزير عند نائب السلطان سلاّر في أمره، لأنه كان يعلم أن سلار يكره ناصر الدين الشيخي، فقرر معه أن يحضر الأمراء عند النائب، ويحضر المباشرون، ويطلبون ناصر الدين وينظرون في أمره، فلما أصبحوا طلبوا ناصر الدين وسائر الدواوين والنظار، وشرعوا في المحاققة، وكان التاج الطويل مستوفي الدولة حاقق معه كثيراً، وكلما سألوه فصلاً من الأموال أجاب عنه ناصر الدين، وإذا أنكروا المصروف أخرج لهم خصمه بالشواهد، فأبطل كلامهم وأدحض صحتهم، فتزايد الكلام بينهم إلى أن قال التاج الطويل: يا ناصر الدين مال السلطان ما يؤخذ بالفجور. فقال ناصر الدين: ويلك أنتم أكلتم مال السلطان، وأنتم تقاسمتموه، ثم نهض واقفاً، ثم قال للأمراء: وحق نعمة السلطان هؤلاء هم الذين أكلوا مال السلطان، فسلموني إياهم آخذ منهم ثلاثمائة ألف دينار للسلطان، واكتب خط يدي بذلك. فقال له التاج الطويل: يا ناصر الدين بقيت تأمر وتنهي، لو طلعت رأسك إلى السماء أنت عندي ضامن بتقارير مكتوبة عليك مثل سائر الضُمان، فلما سمع بيبرس بذلك غضب فقال: والك ما كفى كذبكم حتى تجعل أميراً من أمراء السلطان مثل الضامن الذي يأكل المقارع؟ والله ما يأكل مال السلطان غيركم يا مناحيس يا كلوب، فنهره وأشار بقيامه من المجلس.
وكان في المجلس من الأمراء: الأمير سيف الدين سلاّر، والأمير برلغى، والبغدادي، وأيبك الخزندار، وبكتمر الخزندار، وغيرهم، فلما رأوا أن بيبرس مال عليه، وشدّ من ناصر الدين، مالوا معه عليه، وشدوا من ناصر الدين، ثم التفت إلى ناصر الدين وقال له: اعلم ما تقول إنك تحمل من جهتهم المبلغ الذي ذكرته. قال: نعم يا خوند وأكثر مما قلت، ثم قال الأمير بيبرس للوزير والحجاب: اجمعوا جميع الدراوين وسلموهم له يفعل فيهم ما يختاره، ويطالبهم بالحساب والمال، وإذا لم يقم بالذي قاله أخذته من أجنابه.
وما بقي مستوفي ولا كاتب ولا متصرف ولا معين ولا مشد حتى سُلّم إليه، غير القاضي تاج الدين بن السنهوري، والقاضي شهاب الدين بن الواسطي، فإنهما كانا ناظرين في ذلك الوقت، وكانا محترمين لأمانتهما.
ولما جمعهم ناصر الدين عنده طلب منهم حساب ثلاث سنين، ورسّم عليهم، وضيّق عليهم، وخصوصاً على التاج الطويل فإنه أهانه ونكل به، فما مضى عليهم أيام يسيرة حتى أظهر في حقهم أموالاً كثيرة من حاصل الأهراء والقنود والدواليب وغيرها، وعرف الأمراء بذلك، وقام معه بن سعيد الدولة وعرّف الأمير بيبرس في الباطن أن ناصر الدين ظهر عليهم، وكان كلامه عند بيبرس مقبولاً، فتحدث بيبرس مع سلار والأمراء، وشكر من فعل ناصر الدين، فرسموا له باستخراج الأموال منهم وعقوبتهم، فعند ذلك شدّ عليهم ناصر الدين، فشرعوا في تحصيل الأموال وتبع موجودهم، ثم سعوا عند أكابر الأمراء حتى دخلوا على ناصر الدين بأن يلطف في أمرهم، وحذّره بعض الناس أيضاً عاقبة أمرهم، وعرف ناصر الدين للأمير بيبرس أنه حمل من جهتهم لبيت المال ثلاثمائة ألف درهم، وهي التي وجد لهم.
فحاصل الأمر لما كثر عليه الشفاعات رسم بالإفراج عنهم، وأعيدوا إلى مباشراتهم ووظائفهم، وكان الوزير هو الأمير عز الدين البغدادي، وكان بينه وبين ناصر الدين وقعة كبيرة بسبب المباشرين وما جرى عليهم، وأراد أن يعزل نفسه عن الوزارة، ولم يجد سبيلاً لذلك، غير أنه سأل أن يحج في خدمة الأمير سيف الدين سلار، وكان سلار في تجهيز الحج، فأجيب إليه، فعلم ناصر الدين بذلك فسعى بواسطة الأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار، وسيف الدين برلغى، وسيف الدين بينجار، وبالأمراء الذين يُسمع كلامهم عند سلاّر، وأهدى إلى كل واحد من هؤلاء ما يناسبه، وحصل لهم بلاد في الجيزيّة بالإجارة من ديوان السلطان، وعمل لهم سواقي وغير ذلك، حتى ملأ أعينهم، ثم استعمل الأكواز الفضة والذهب، والسلاسل الذهب والفضة، وما يناسب سفر الحاج لمثل سلاّر نائب السلطان، وحصل، وكان في ذلك الوقت لا يوجد، وغير ذلك من الأشياء الحسنة وقدّم الجميع لسلار.