وكان الموجب لذلك أن هذا الأمير لما طلب من بين الأُسراء كان قد حصل بينه وبين أحد منهم كلام أوجب التباغض بينهما، اجتمع بمشدّ الأمراء وعرّفه أن له نصيحة يريد أن يُبديها للسلطان، فعرّف المشد بذلك للأمراء وبلغوا السلطان فطلبه، فلما حضر قال: إن هذا الأسير الذي شفع فيه صاحب برشونة وأجاب إليه السلطان ابن ملك كبير في البلاد، وله مال عظيم، ولو طلب السلطان منه ملء مركب ذهباً أعطاه وأعطى أضعافه. فقيل له: كيف أصل أسر هذا وما جرى عليه؟ فقال: هذا كان قد حضر بمركب تجارة إلى مدينة طرابلس وأخذ منها متجراً عظيماً، وتردد إليها مرات، وكان يتردد أيضاً إلى جزيرة أرواد لما كانت عامرة، وجعل له فيها حواصل كثيرة، ولما أُخذت جزيرة أرواد واستولى عليها المسلمون كان هو مقيماً فيها، وأُخذ مع جملة الأسراء وقال: أنا أعرف بلده وأعرف أباه وأمه وما هو عليه من الدنيا الواسعة وأنا أُسرت معه، وتم الأمر علينا إلى هذه الأيام، ولما بلغ والده أن ابنه في قيد الحياة وأنه أسير عندكم، فتحيل ودخل على صاحب برشونة وقدم له هدية عظيمة، وهو الذي أقام بجميع ما جهزه إلى السلطان من عنده ما قيمته أربعون ألف دينار، وكتب صاحب برشونة إلى السلطان بسبب الكنائس وما كان قصده إلا خلاص هذا الأسير، وإنما جعل ذكر الكنائس حجةً وسلماً إلى وصول قصدهم.
فعند ذلك كتب بطائق إلى متولي الإسكندرية، وسيروا بعدها البريد، فسبقت البطاقة، وأراد الله عز وجل أن لا يبلغهم آمالهم، وفسدت الريح إلى أن أدركهم الأمر، فركب متولي إسكندرية في الحال وأخذ الأسير منهم وأعاده للقيد، وسيره صحبة البريد إلى مصر، وعرف رسول صاحب برشونة أن السلطان علم خبر هذا الأسير ورسم أن يرجع إلى مكانه، وسافروا أنتم، فلم يمكنهم الكلام بعد ذلك، وعلموا أن الذي جاءوا بسببه لم يتم لهم، وخشيوا عاقبة أمرهم، فأقلعوا من وقتهم وسافروا.
ولما بعدوا عن إسكندرية تشاوروا فيما بينهم في أمر الرسول الذي معهم من جهة السلطان، فاتفقوا على أن يأخذوا جميع ما معه من جهة السلطان، ثم يقتلوه ويسافروا، فتصدى شخص من عقلائهم فقال: قتل الرسول ليس بجيد وأيضاً إذا قتلناه نخشى عاقبة ذلك، وربما يصعب ذلك على الملك أيضاً، وصاحب مصر لا يُعاند، فعند ذلك اقتضى رأيهم أن يأخذوا جميع ما معه ويردّوه إلى إسكندرية، ولما انتظم الأمر بينهم على ذلك قاموا إليه وأخذوه وحده ووضعوه في قارب، وكان رجلاً ضخماً وقالوا له: رُح إلى مكان جئت منه، فلو كان قتل الرسول جائزاً لقتلناك ورميناك في البحر، فسألهم أن يردوا عليه شيئاً من ماله فإنه أخذه بالدين، فأبوا أن يردوا عليه شيئاً، وقالوا: هذا بعض ما جبناه إلى ملككم، وأقلعوا، ورجع هو بالقارب إلى الإسكندرية وليس معه سوى ما عليه من القماش، فجهزّه متولي الإسكندرية إلى القاهرة، وكتب إلى السلطان وعرفه بخبره، ولما وصل إلى مصر دخل إلى الأمراء وشكى حاله فقال: إني تداينت أموالاً كثيرةً على ذمتي وأُخذ جميعها، وبكى بين أيديهم، فكان جواب سلاّر: نحن سيرنا رسولاً ما سيرنا تاجراً، وأرسلوا إلى متولي الإسكندرية وأمروا له بأن يحتاط على من عنده من الإفرنج التجار وغيرهم من برشونة، وإن لم يكن عنده أحد منهم يترقب حضورهم، فإذا حضر أحد منهم يعرف الأبواب الشريفة بذلك.
منها: أنه ولد للملك الناصر ولد من زوجته أردكين خاتون بنت الأمير سيف الدين نوكيه السلحدار الظاهري، وسماه عليّاً ولقبّه علاء الدين، ثم لُقبّ بعد ذلك بالملك المنصور، وكانت هي زوجة أخيه الملك الأشرف رحمه الله.
وقال صاحب النزهة: وعملت له الأمراء مهماً كبيراً وفرحوا به، وقصد السلطان أن يقيم عنده المغاني سبعة أيام فلم يوافقه الأمراء على ذلك وعملوه يوماً واحداً.
ومنها: أنه ارتفع سعر الغلال بالديار المصرية فبلغ الأردب من القمح إلى أربعين درهماً فما فوقها، ثم أخذ في الانحطاط.
ومنها: أنه وقع الموتان في الحيوان بحلب والشام وأعمالها، فقيل إن الذي نفق منها يناهز ثمانين ألف رأس.
قال بيبرس: ووصلت ريح الوباء التي أصابتها إلى الديار المصرية، فنفق من خيول العسكر شيء عظيم.