قال ابن كثير: وفي هذه السنة ورد إلى الأبواب الشريفة الأمير سيف الدين جنكلى بن شمس الدين المعروف بابن البابا، أحد مقدمي التتار ومعه حريمه وألزامه عدتهم أحد عشر نفراً منهم أخوه نيروز، فأقبل عليه السلطان وأمره طبلخاناة، ثم نقله إلى أمير مائة، وكان مقام المذكور ببلاد آمد، وكان يُكاتب السلطان بالنصيحة، فلهذا عظم شأنه.
قال صاحب النزهة: وفيها ورد مملوك نائب حلب وعرف السلطان أن جنكلى ابن البابا نائب رأس العين سير إليه وكاتبه في الدخول إلى مصر، فكتب السلطان إلى نائب حلب بالركوب إليه وتلقيه والإكرام إليه، وكذلك كتب لنائب دمشق وأن يخهز له الإقامات.
وفي ثالث ذي الحجة منها: قدم جنكلى المذكور، وكان قد جهز حاله وهو في بلاده إلى أن اتفق موت قازان وبلغه ذلك، فوجد الفرصة فركب بمن معه من ألزامه وأقاربه، وأخذ كلّ ما عز عليه، وركب على نية افتقاد ما حوله من البلاد التي يتولاها وقصد الفرات وعدّى، وبلغ ذلك نائب حلب، فكتب إلى بهسني وكختا وسائر النواب بالركوب إليه وإكرامه، وعند وصوله إلى حلب تلّقاه نائبها وأكرمه، وكذلك نائب دمشق إلى أن وصل إلى مصر، وركب الأمير ركن الدين بيبرس إلى لقائه ومعه سائر الأمراء إلى قبة النصر، وأحضروه بين يدي السلطان، وباس الأرض ثم يده، فقّربه وتحدث معه، ووعده بكل خير، ورسم له أن يسكن في القلعة، وعند استقراره رسم للأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري أن يذهب ثانياً إلى صفد ورسم بإقطاعه لجنكلى المذكور، وكتب له زيادةً على ذلك مائة ألف درهم، ورسم لأمير على أخو قطلوبك بعشرة، ولنيروز الذي جاء معه تقدمة.
قال ابن كثير: وفيها وصل أيضاً الأمير بدر الدين بأهله من آمد ومعه جماعة إلى مصر، فأقبل عليهم السلطان وأحسن إليهم.
قال ابن كثير: وفيها وصل رسول من جهة الريداكون البرشوني، أحد ملوك الفرنج، برسالة تتضمن الشفاعة في النصارى الذين بمصر ليجروا على عوائدهم، وينعم عليهم بفتح كنائسهم، فقبل شفاعته وفتحت لهم كنيستان بالقاهرة: كنيسة لليعاقبة بحارة زويلة، وكنيسة بالبندقانيين للملكية، وعاد الرسول إلى بلاده، وسيّر صحبته فخر الدين عثمان الأفرمي، فلما وصلا إلى إسكندرية وركبا منها في البحر تفاوضا مفاوضةً أدّت إلى أن رسول البرشوني طرح عثمان من المركب إلى القارب الذي خرج من الميناء، فشيعهم هو وغلمانه، فأقلع من فوره، فرجع فخر الدين عثمان إلى مصر.
وفي النزهة: وصل رسول البرشوني وصحبته هدية حسنة خارجة عن عادته، فإن تناهى في التحف والأشياء المفتخرة من المصاغ والبلور والذهب للسلطان وأرباب الوظائف من الأمراء وغيرهم، فأعجب السلطان والأمراء ذلك، وكان في كتابه سأل أن يحضر إليه رسول من جهة السلطان فإنه اختار أن يشافهه، فرسم بتجهيز فخر الدين عثمان استادار الأمير عز الدين الأفرم، وكان قد تأمر وولي ولاية القاهرة أياماً وعزل، فتجهز وأولع في الطمع حتى اقترض على ذمته نحو ستين ألف درهم غير ما كان في حاصله، واشترى أصنافاً كثيرة من أصناف صالحة لتلك البلاد، ولما فرغ الرسل من التجهيز تمثلوا بين يدي السلطان وباسوا الأرض، وأخرجوا في ذلك الوقت مُلطفاً صغيراً وقالوا للترجمان: إن الملك كان أوصى إليهم أن السلطان إذا قضى حاجته في الكنائس نُخرج هذا الملطف ونعطيه، وإن لم يجب إلى ذلك فلا تعطوه، فلما قُرىء على السلطان وجد في ضمنه أنه طلب بعض الأسرى المحبوسين في مصر، وذكر أن أباه وأمه قد توفيا ولم يبق غير أخته، وأنها قد دخلت على زوجته أن تسأل صدقات السلطان أن يجمع بينها وبين أخيها، فرسم السلطان أن يفك قيد هذا الأسير المطلوب ويُسلم إليهم، ثم كتب لمتولي الإسكندرية بإكرامهم وتسفيرهم، ولما وصلوا إلى إسكندرية باتوا تلك الليلة على نية السفر، وعند طلوع الشمس تغير الهواء وأعاقهم عن الخروج من الميناء، وعندما تضاحى النهار وقعت بطاقة: إن كانت الرسل قد سافروا تحيلوا على ردهم إلى اسكندرية إن أمكن ذلك، وإن كانوا ما سافروا عوّقوهم وخذوا منهم ذلك الأسير الذي فكّ قيده وسُلم إليهم، وأحضروه إلى مصر، ويأذن السلطان بعد ذلك للسفر.