فما كان إلا عند وصول رسلنا إليه، فجهز عسكره وأظهر من الغدر ما لم يكن يخفى عليه، وأمرهم بما عاد وباله عليهم، وحرّضهم على ما وجدوه حاضراً لديهم، ثم تقدم معهم وعدى بهم ماء الفرات، وجهزهم ورجع، وعلم أن الغلبة من قراه، فما كان إلا أن دخلوا البلاد، وعملوا بما أمرهم من الفساد، وتفرقت خيولهم في الأطراف والأوقاف، وقطعوا أيدي الأشجار وأرجل الزروع من خلاف، ونزلوا بالقرب من حلب، وشنوا الغارات وجدّوا في الطلب، وجيوشنا الشامية لهم بالمرصاد، وقد أخلصوا لله تعالى نية الجهاد، وهم يتقدمون إليهم كل وقت ويظهرون لهم الضعف والتأخير ليتوسطوا البلاد ويحصل هناك التدبير، فعاد منهم تومان إلى القريتين، فجهز من جيوشنا إليهم ألفان، فوجدوهم قد أخذوا أغنام التركمان، فوافوهم بالقرب من عرض فكانا كفرسي رهان، فلم يلبث الباغون ساعة من النهار، حتى عجل الله بأرواحهم إلى النار، وبقيت أجسادهم ملقاة بأرض عرض إلى يوم العرض، ولم يفلت منهم إلا من يفعل الخير إنهم قد صاروا أخياراً، ثم أخذ منهم جماعة أسارى: كرج، وأرمن، ومغل، ونصارى.

فما أقنعهم ذلك، ولا اكتفى بأرواحهم مالك، وهموا طالبين الغوطة، ولم يعلموا أن من دونها رماحاً مشروعة وجياداً مربوطة، وعساكر يتأخرون عنهم قليلاً بعد قليل، وجيوشنا ترصدهم بالغداة والأصيل، فلما عاينوا دمشق المحروسة ظنوا أنهم بدخولها يستبشرون، وما علموا أنهم من حولها إلى جهنم يحشرون، فعبروا عليها وطلعوا إلى جبل يعرف بالمانع، فأخذ الرعب من قلوبهم بالمجامع، وتحققوا أن نتيجة الغدر الهلاك، وأن مصرع البغي ليس لهم منه فكاك، فمالوا إلى جانب البرية للفرار، وطلبوا أطراف الميمنة للذلة والانكسار، فضربت عليهم جيوشنا حلقاً، وسلبوهم أثواب الحياة والبقاء، ودارت بهم الخيول وبثت سنابكها سماء من العجاج نجومها الأسنة، فطارت إليهم عقبان من الجياد قوادمها القوادم وخوافيها الأعنة، وتصوبت عيون السمر إلى قلوبهم كأنها تطلب سويداها، وقصدت أنهار السيوف أكبادهم فكأنها أرادت تروي صداها، فشربوا كأس المنون لما تبلجت صفحات الصفاح، وعانتهم عيون الرماح، وأنشأت لهم الحوافر غمامةً من الغبار، ونزلت عليهم أمطار من السهام كمطار الشرار، وأخذتهم رعود من الصهيل وأبرقت في جوانبها بروق من كل سيف صقيل، ولم تغب الشمس حتى افترشوا أديم الأرض والوعر والسهل، والتجأ من بقي منهم إلى جبل يعصمهم من القتل، وباتوا عليه ليلة الأحد، وأيقنوا أن ليس ينجو منهم أحد، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، وأيسوا من الخلاص وقنطوا من السلامة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وظنوا أن أرواحهم من أجسادهم قد ذهبت، ونادوا بلسان حالهم، وقد قربت مدّة آجالهم، اعتقنا أيها الملك الرحيم، واعف عنا أيها الملك العظيم، فإننا جميعنا مسلمون ولا تؤاخذنا بما جناه كفارنا المسرفون، فإننا منهم بريئون، فأردنا أن يطلب النصر من حيث عوّدنا من العفو، فأمرنا جيوشنا أن تفتح لهم طريقاً ليذهبوا، وتركناهم من فعالنا يتعجبوا، ففروا فرار الشاة من الأسد، ولم يلتفت منهم والد إلى ولد.

فلو رأيت أيها الملك ذلك اليوم، لبقيت زماناً يروعك رؤياه في النوم، وما كنت ترى من جيشك إلا قتيلاً أو أسيراً وكان يوماً على الكافرين عسيراً فلله درّه من يوم تصاحب فيه الذئب والنسر، والقيد والأسر، وهلك الذين هم ديوية الفرسان، قد قادهم الذل والصغار ورعاة العربان، والكرج قد لحقت بقية آثارهم، وعجل الله بدمارهم، والأرمن وقد سيق من سلم منهم في القيود إلى خزانة البنود.

ولو نظرت عيناك ما جرى من أرض حوران إلى الفرات، لراعك وأرعبك من الهول ما كنت تراه، ولو رأيت أصحابك كيف بقوا طعم الرخم والذباب، لقلت من هول ما شاهدت: يا ليتني كنت تراباً، وكيف لك بالتراب؟ ولكن روعك من السماع أسهل عليك من العيان، فنظرك إلى من عاد إليك من أصحابك يكفيك في البيان، وإنما لو حضرت لرأيت ذلك المقام مشهود، الذي فيه الملائكة شهود.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015