وقال صاحب النزهة: لما انكسرت التتار انتشروا في الأرض، فكان الرجل منهم يقع من نفسه، وآخر يقف فرسه فينزل ويمشي ساعةً، ثم يقطع من لباده الذي عليه قطعة فيلفها على رجليه، هذا هم الذين غفل عسكر الإسلام عنهم، وأما الذي يصادفه أحد منهم فإما يقتله أو يأسره ويقوده مثل الكلب، وقد ملئت الأرض من دمائهم ومن أجسادهم، فأوقع الله عليهم الذلة والصغار حتى يقبض على واحد منهم فلا يمد يده ولا يقاتل، وإذا كان في يده قوس أو سيف يرميه إلى الأرض، وإذا رأى الرجل طالبه يمدّ رقبته إليه ويسلم نفسه من غير قتال، وقتلت منهم الغلمان والحرافيش خلقاً كثيراً، وكان الجند ومماليك الأمراء يتذاكرون في قتلاهم، فمنهم من يقول: قتلت عشرين وآخر يقول: قتلت ثلاثين، وآخر يقول: قتلت عشرة، ونحو ذلك، وأما العرب فقد فعلوا بهم من النهب والقتل ما لا يحصى، ومنهم خلق كثير ماتوا عطشاً في البراري، وكذلك دوابهم، ومنهم ناش التجأوا ببساتين دمشق فدخلوا فيها، فكان الرجل يجيء إلى بستانه فيجد فيها اثنين وثلاثة فيقتلهم، ولا يقدر أحد منهم على منعه من الخوف والجوع والتعب، ولما علم الأمراء بذلك نادوا في دمشق إن من وجد أحداً من المغل أو الأرمن ولم يحضره إلى نائب الشام فقد حل دمه، فصار من يظفر بواحد منهم أو أكثر يأتي به إلى النائب، فالنائب إما يقتله وإما يستخلصه لنفسه.
وقال بيبرس في تاريخه: لما حصل التظافر على التتار أسرع مولاي أحد مقدميهم في الفرار، وفرّ معه منهم زهاء عشرين ألفاً، ثم افترق التتار ثلاث فرق: الأولى فرقة فيها جوبان في زهاء ثلاثين ألفاً، والثانية فرقة فيها قطلوشاه ومعه تقدير ثلاثين ألفاً، والفرقة الثالثة كانت مع طيطق تقدير عشرين ألفاً، فحملت العساكر عليهم فصيروهم رميماً، وركبوا أكتافهم فغادروهم هشيماً.
ولما كان من غد يوم الوقعة يوم الإثنين ثالث رمضان: جرد خيل الطلب في الآثار، فكان فيها الأمير سيف الدين سلار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار وتتابعت العساكر تقفو قفى التتار، وتأخذ من حماتهم وكماتهم الثأر بالبتّار، فامتلأت من قتلاهم القفار، وأمسوا حديثاً في الأمصار، وعبرة لأولى الأبصار:
مضوا متسابقي الأعضاء فيهم ... لأرجلهم بارؤوسهم عثار
إذا فاتوا السيوف تناولتهم ... بأسياف من العطش القفار
وسرح السلطان واحداً من أسراهم ليخبرهم بما تم، وأرسل على يده كتاباً تحدث فيه بنعمة ربه وما منحه من نصرة حزبه.
ذكر نسخة الكتاب الصادر من السلطان من مرج الصفر إلى قازان في رابع شهر رمضان:
الحمد لله على ما جدّد لنا من النعمة التامة، وسمح به من الكرامة العامة حين أعاد النعيم إلى كماله، والسرور إلى أتم حاله، فاستأنست النفوس إلى استمرار عوائدها، وارتاحت القلوب إلى معجز فوائدها، وأضاءت شمس المعالي، وطلعت بدورها بالسعد المتوالي، إذ كانت غلطة من الدهر فاستدركها، وسقطة بدت عنه فما تركها، فقرّت بذلك العيون، وتحققت في بلوغ الآمال الظنون، فلله الشكر الجزيل ما أومض في الجو بارق، وسرى في الآفاق نجم طارق.
وبعد: فليعلم الملك الجليل محمود، جامع الجيوش وحاشد الجنود، أنه تظاهر بدين الإسلام، وأشهر ذلك بين الأنام، وأبطن خلاف ما ظهر، وتظاهر بالباطل والحقّ ستر، ثم فعل ما قدره الله عز وجل وما حكم به القدر، فحملنا ذلك على أنه تقدير، وأن ليس يجدي فيما أراد الله عز وجل تدبير، فما لبث الملك إلا أيسر مدّة، وأرسل رسله إلينا مجدّه، وهو يطلب الصلح ويحرّض عليه، ويذكر الإسلام ويندب إليه، وزعم أنه ليس يختار الفساد في الأرض، فإن الواجب علينا وعليه إصلاح ذوي الدين وأنّ ذلك فرض، فعلمنا مقصده في مقاله، وتستر منا بستر يلوح وجه القدر من خلاله، فأكرمن رسله كرامة تليق بفعالنا، وسمعنا رسالتهم وجاوبناهم على مقتضى حالهم لا مقتضى حالنا، وأعدناهم إليه بما هم مصرّون عليه، فعاد رسوله يطلب رسولاً يسمع كلامه وليس يخفي عنا مقصده ومرامه، فأرسلنا إليه ما طلب، وركبناه فرس البغي فيا بئس ما ركب.