ولقد نصحنا لك أيها الملك فما ارعويت، وبذلنا من القول فما رعيت، وركبت من خيل البغي أجرى كُميت، وقلنا لك إن من جرد سيف البغي كان به المقتول، فلم تعِ القول ولم تضغ لمن يقول، فاستيقظ لنفسك، وتلق هذه المصيبة التي تدخل بها إلى رمسك، ولا يغرك بالله الغرور، واعلم أن ذلك في الكتاب مسطور، واندك المين بالإيمان، ودع عنك ما يسوله الشيطان، فإنه ما يأمرك إلا بما جنيت ثماره، ولا تحصد إلا ما زرعت بذاره.

وأنت تزعم أن الإسلام شريعتك وبه تدين، فنجتمع نحن وأنت على كلمة الإيمان، ولا تعثوا في الأرض مفسدين وتخرج عن بغداد والعراق ونعيدها إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي شرق به ظلام الآفاق، ونتبع نحن وأنت أمره ونؤيد به هذا الدين، ومن فعل غير هذا فعليه اللعنة إلى يوم الدين، لتعلم أنك كما تزعم متمسك بشريعة المسلمين، وإن أنت سولت لك نفسك خلاف ذلك، فأنت لا محالة هالك، وعن قليل تخلو منك العراق والعجم، ويصير وجودك إلى العدم، وقد أوضحنا لك القول لكيلا تميل، وهديناك إلى أقوم سبيل، ثم تتقدم بإرسال رسلنا المسيّرة إليك في أتم الكرامة، وتسيّر معهم من يوصلهم إلينا في حرز الأمن والسلامة، وترتحل بمن بقي من جيشك إلى طبرستان، وتخلى لمالكها هذه الأوطان.

وبلغنا أنك قلت إن خيلك ورجلك تدخل الديار المصرية، فقد صدقت أنت لكن المنجمين غلطوا في القضية، أما الخيل فإنها دخلت مجنوبة، وأما الرجال فكان في حلوقهم الطبول وبأيديهم الصناجق مقلوبة، فقد صدقت منهم المقال، وتباركت بهذا الفأل، وعن قليل نأتيك برجال تميد من تحتها الأرض وتزحف، فترى ما يهولك حتى تتمنى أن تنجو ولو على بطنك تزحف، فتيقظ من رقدة المنام، وبادر الرحيل، والسلام.

ذكر من استشهد من أمراء المسلمين

الأمير حسام الدين الأستادار، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأمير شمس الدين سنقر الكافري، والأمير عز الدين أيدمر الشمسي القشاش، والأمير جمال الدين أقوش الشمسي الحاجب، وعز الدين أيدمر الرفا المنصوري، وعز الدين أيدمر النقيب، وعلاء الدين علي بن ددا التركماني، وحسام الدين علي بن باخل، واستشهد من أجناد الأمراء وغيرهم تقدير ألف فارس.

وقال صاحب النزهة: وكان ولد الأمير حسام الدين الأستادار قد حمل والده في تابوت وأحضره إلى دمشق على أنه يدفنه بها، فشاور الأمراء، فأنكر عليه الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير والأمير سيف الدين سلار وقالا: إحضره، فأحضره، وكشفوا التابوت ورأوا تلك الشيبة الحسنة وقد تخضبت بالدماء وفي وجهه أثر ضرب السيوف وقد أصاب نحره النُشّاب، وقد ملء سلاحه دماً، فلما رأوا ذلك تباكوا، وتمنى كل منهم أن يموت هذه الموتة، وأشاروا لبعض أمراء دمشق ووالي البر أن يركبوا ويذهبوا إلى موضع الوقعة ويجمعوا من يجدونه من الموتى من الأمراء وغيرهم، ويدفنون الجميع - من غير أن يغسلوهم - في مكان واحد، ثم تبنى عليهم قبة، وأمروا أن يدفنوا الجند والمماليك الذين قتلوا مع أستاذهم خارج القبة.

وقال الراوي: أخبرني من حضر دفنهم، شاهد الأمير أوليا بن قرمان وعليه من الأنوار والجلالة والمهابة ما لا رآه على أحد غيره، وأخبر عن بعض العسكر الذين أسروا من عدة جوبان أنهم لما قصدوا للقتال كان ابن قرمان هذا راكباً حصاناً أشهب، وأنه كان يعرف أستاذهم جوبان، فما جعل دأبه إلا هذا، وكان يحمل إلى أن يكاد يقرب منه، فتردّه جماعته، فينعطف، فيأتي من مكان آخر، وعلم جوبان أيضاً قصده إياه، قصده في جماعته ولم يبق بينهما إلا القليل، فرماه سلحدار جوبان بياسج في خاصرته، فمال عن فرسه، ثم استوى، ثم قصده ثانياً، فقتل فرسه بسهمين متواليين ووقع إلى الأرض، ونهض ابن قزمان قائماً، فرماه ذلك السلحدار في وجهه وفي صدره إلى أن وقع واستشهد. فقال جوبان: هذا أمير كبير، عرفه بلبسه وفرسه.

وأما الأمير حسام الدين الأستادار فإنه من حين وقع بينه وبين سنقر العلائي قدام الأمراء والسلطان لم يسمع أحد عنه كلاماً غير وصيته لولده على بناته ومماليكه، ثم قال: كنت انتظر هذا اليوم، والله لا عشت بعد هذا اليوم، وقد عشنا سعداء، ونرجو أن نلقى الله ونحن شهداء، ثم إنه من حيث جذب سيفه وتقدم لم يلتفت إلى أحد بوجهه، ولا سمعوا منه غير الله أكبر، فقاتل حتى قتل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015