ومازالت الحرب بينهم إلى أن مالت الشمس للغروب، وكان الملتقى بينهم بعد الظهر، ثم مال قطلوشاه بمن معه إلى جانب جبل إلى جانبه، وطلع عليه وفي نفسه أنه منصور، ورجع جماعة منهم كانوا وراء المنهزمين، ومعهم جماعة من أسراء المسلمين وفيهم الأمير عز الدين أيدمر النقيب من المماليك السلطانية، فلما اجتمعوا قال قطلوشاه: هذا عسكر كثير وليس الأمر كما ظننا فلا بد أن نعلم خبرهم، فاقتضى رأيهم أن يحضروا أسيراً من الأسرى ويستخبروا منه خبر العسكر، وقالوا لقطلوشاه: إن في الأسرى رجلاً وهو أمير، وهو عز الدين أيدمر المذكور، فأمر بإحضاره، فأحضروه بين يديه وقال: أنت من أمراء الشام؟ قال: لا أنا من أمراء مصر. فقال له: وما جاء بك ههنا؟ فقال: جئت مع السلطان. قال: مع الملك الناصر. قال: نعم. قال: وأين السلطان وعسكر مصر؟ قال: الكل واقفون. قال له: وعسكر مصر جميعهم الساعة ههنا حاضرون والملك الناصر حاضر. قال له: نعم. قال: فأي وقت وصلتم إلى ههنا، فأخذ يعرفه ويخبره بجميع أمور السلطان من يوم خرج من مصر إلى هذا اليوم. ومن جملة ما قال له: هذا الذي كسرتموه من الميمنة فقط، وعسكر الملك الناصر كثير، فلم يصدقوه حتى أحضروا غيره، فسألوه فأخبر نحو ما أخبره عز الدين أيدمر، ثم سألوا غيره وغيره إلى أن سألوا جماعة كثيرة، فالكل أخبروا بخبر واحد، ولما تحققوا صدق مقالهم وقعوا في بحر زخار، فقال لهم مولاي: تحققتم أن هذا هو الملك الناصر قالوا: ما بقي شك في أمره. فقال: ألم تعلموا أن الخان قازان قد كتب يغلق، وعاهدنا أننا إذا رأينا أو سمعنا أن الملك الناصر حاضر بعسكره أو بغير عسكره لا نضرب معه مصافاً؟ فقال له قطلوشاه: لو علمنا من الأول أن الملك الناصر حاضر ههنا ما ضربنا معه رأساً، ولكن اعتقادنا أنه نائب الشام مع عسكر الشام، والآن فقد وقعنا كلنا في فم السبع فما بقي إلاّ الموت جميعاً أو الحياة جميعاً، وهم في ذلك الكلام إذا بالكوسات قد دقت والبوقات قد زعقت، حتى ملأت الأرض وأزعجت القلوب، وكان ذلك برأي الأمراء حيث رأوا التتار قد تجمعوا فوق الجبل حتى تقع الهيبة في قلوبهم، وحتى يسمع المنهزمون فيرجعون.
ولما سمعوا حسّ الكوسات، قال مولاي لقطلوشاه: هذا الطبل ما يدق إلاّ للسلطان، وأنا ما أخالف يسق الخان، فضرب طبله وخرج من قدام قطلوشاه بتومانه، ونزل من الجبل بين العشائين، ولم يزل إلى أن طلع من المخاضة التي نزلوا منها، وعلم به بعض العسكر، فلم يجسر أحد أن يقربه ولا أن يتبعه.
وبات الأمراء والناس في هذه الليلة والنيران قد ملأت الأرض، والمشاعل توقد، وكذلك التتار قد أوقدوا النيران وباتوا محترسين على أنفسهم، ولم يزل في تلك الليلة النقباء والحجاب ومعهم سلار وبيبرس وأسندمر وقبجق وأكابر الأمراء دائرين على الأمراء والأجناد يوصونهم بأن يكونوا على يقظة من أمرهم، فعرفهم الأمير سيف الدين قفجق أن التتار لو قتلوا عن آخرهم في هذا المكان ما ينزل أحد منهم في الليل ولا يقاتل، وإنما لا بد لهم من النزول غداً.
قال الراوي: وما أصبح الصباح إلا وقد انضم شمل عساكر السلطان، وأخذ كل أحد موضعه، وأما قطلوشاه فإنه شاور مع بعض الأمراء الكبار الذين معه فيما يفعله، وقد تحققوا في أنفسهم الموت، فوقع رأيهم على أن يقيموا على الجبل ولا ينزلوا ويقاتلوا العسكر إلى أن يفنوا ولا يسلموا أنفسهم، وما زالوا محترسين على أنفسهم إلى أن طلعت الشمس وقوي نورها، فنظروا إلى عسكر قد ملأ الأرض، ولم يروا مثلهم في أعمارهم، وأراهم الله في عيونهم في كثرة لا تحصى ولا تعد.
ثم شرع المسلمون يريدون أن يهجموا عليهم، فمنعهم الأمراء، وفرقوا العساكر حول الجبل على بعد.
وشرع قطلوشاه والأمراء ورتبوا عسكرهم، فجعلوا كل مقدم إلى جهة، ونزل منهم بعض ركاب وجماعة من الرجالة وقصدوا قتال العسكر.