ولما رأى السلطان والأمراء ذلك جعلوا قبالة كل مقدم مع طائفته أميراً من الأمراء، وأضافوا إليه من كان يناسبه، وخرج مماليك السلطان إلى مقابل قطلوشاه وجوبان، فشرعوا يقاتلون معهم تارةً بالرمي وتارةً بالهجوم عليهم، وقد لاح للإسلام وجه النصر على الأعداء، وصار كل مقدم من الأمراء يقاتل بالنوبة، يقاتل واحد ثم يذهب ويجيء غيره، وكذلك فعل المغل، والسلطان والأمراء واقفون ينظرون إليهم، فإذا قتل فرس واحد منهم أحضروا غيره في الساعة حتى أن بعضهم كان يقتل له فرس وفرسان وثلاثة من النشاب.
ولم يزالوا في القتال إلى أن توسطت الشمس من نهار الأحد. وانفصل القتال بينهم، وطلع قطلوشاه ومن معه من التتار وقد قاسوا نهاراً عظيماً، وقتل منهم نحو ثمانين رجلاً، وخرجت جماعة وركبتهم الذلّة، وقاسوا من قلة الماء أمراً عظيماً لأنهم لم يحسنوا انحصارهم على الجبل، فما أخذوا من الماء إلا قليلاً، ولما رأوا ذلك أجمعوا على النزول بكرة النهار، فمن مات مات ومن له أجل عاش، وذبحوا من خيولهم وشووا وأكلوا.
ولما أصبحوا اعتمدوا على النزول، وهرب منهم ناس من الأسرى وجاءوا إلى السلطان وأخبروه بما هم فيه من الذلة والعطش والخوف، وأنهم اتفقوا على أن يصدموا الجيش، وأنهم قد تحققوا الموت، فعند ذلك تشاور أكابر الأمراء، ووقع رأيهم على أن يفسحوا لهم طريقاً ولا يتقرب إليهم أحد إلى أن ينزل الجميع قدام العسكر، ثم يركبون ظهورهم.
ولما أرادوا النزول رأوا جماعة من المغل قد عدمت خيولهم وبقوا رجالة، وما بقي مع أحد من الأمراء فضلة خيل، فاتفقوا أن يأخذوا خيول الأرمن الذين معهم، فأخذوا منهم نحو مائتي فرس وأعطوا هؤلاء، ثم شرعوا في تجهيز حالهم إلى الساعة الرابعة من النهار، ثم ضربوا طبولهم ونزلوا، وكل منهم قد أعدّ نفسه للموت وتموا سائقين إلى أن وصلوا إلى النهر، ورموا خيولهم فيه، فمن كان فرسه قوياً طلع ومن كان فرسه قليل القوة وقف فيه، ولما طلعوا منه تبعتهم خيول المسلمين، وأنزل الله عليهم الذلة والمسكنة، ومزّقت جموعهم، وتفرقوا بحيث لم يلتفت أحد إلى أحد.
وكانت تلك الأراضي وعرةً كما ذكرنا لا يتمكن الفرس من حط رجلها إلا على حجر، فقاست خيول المسلمين من ذلك شدة.
وأما التتار فإن راكباً منهم ما يهرب مقدار رمية نشاب إلا وقد وقع على الأرض.
ولو عاينت ما كنت ترى غير رؤوس ترمى بالسيوف، ورجال يقبض عليهم بالأيادي والكفوف، وتمت خيل المسلمين تابعة أثرهم إلى أن صار وقت العصر، فرجعت الأمراء واجتمعوا عند السلطان، واتفق رأيهم على تجريد أمراء يتبعونهم، فجردت جماعة منهم بمضافيهم من أصحاب الخيول الجياد، فتزودوا وساروا وراءهم، ورسم للعرب أيضاً أن يتبعوا آثارهم، فأيّ موضع أدركوا منهم جماعة يقبضون عليهم ويقتلونهم ويأسرونهم.
وقال النويري: التقى الفريقان بمرج الصفر نصف النهار، فاضطربت ميمنة المسلمين، واستشهد جماعة من الأمراء، وانهزم بعضهم إلى دمشق، وأردف القلب الميمنة فردّت التتار عنها، وأما الميسرة فثبتت وحملت على ميمنة التتار وكان مقدمهم مولاي، فولى منهزماً وتبعهم المسلمون، وحجز الليل بينهم، والتجأ التتار إلى الجبل وأحاطت العساكر الإسلامية بهم وضايقوهم أشد مضايقة إلى الصباح، ثم أفرج لهم الأمير أسندمر فرجة من رأس الميسرة، فخرجوا منها هاربين على أعقابهم، وتبعتهم العساكر الإسلامية فأبادوهم قتلاً وأسراً وغنموا منهم خيلاً عظيمة حتى بيع الأكديش بخمسة دراهم.
وقال ابن كثير: وأصبح الناس يوم الجمعة أول رمضان في هم شديد وخوف أكيد لا يعلمون ما خير الناس، فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير غرلو العادلي، فاجتمع بنائب القلعة، ثم عاد سريعاً ولم يدر أحد ما الخبر، ولم يفهم أحد من العامة فيم جاء غرلو.
وأصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من شدة الحال، فرأوا من المآذن سواداً وغبرة من ناحية العسكر والعدوّ، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله بالدعاء في الجامع والبلد، وطلعت النساء والصغار على الأسطحة، وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس.