وحيث أردنا أن لا يتأذى بذلك المسلمون، صفحنا عنهم وتلونا: فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون وعاودنا إرسال الإيلجيّة مع أكابر القُضاة، وحملنا إليهم الخلع والموهبات، ليسلكوا مسالك الموافقات، ويجتنبوا جوانب المحالفات، فوصل الخبر عقيب توجه الإيلجيّة أن القوم قصدوا ديار بكر، وحلّوا حُبي الكيد والمكر، فأمرنا بركوب العساكر وإهلاك الباغين بالسيوف البواتر، فانتهى خبر ذلك إليهم، وفزعوا من سطواتنا عليهم، فأخذوا عن ديار بكر جانباً، وأصبح صحيح أملهم كاذباً، لكنهم عموا على خرت برت وملطية وسيس، وأخربوا أطرافها وحواليها بالحيلة والتلبيس، ولا شبهة لأحد إن خرت برت وملطية من ولايتنا وصاحب سيس من الداخلين في شريعة طاعتنا، وقد كانوا أظهروا للإيلجية الألية، واستلزم إقدامهم على ذلك كذب القضية، وأيضاً كاتبوا الأكراد والروم بخطاب الأخ مراراً، ودعوهم إلى إثارة الشر والفتن سراً وجهاراً، وما علموا أن صحارى بلادنا مملوءة من أمثال أولئك، ولا التفات لأحد إلى ذلك، وكتبوا أيضاً إلى ملك الكرج بار بن داود، وأثبتوا البّر والعبودية، مع أنه عندنا خالص النية والطوية، وحرضوه على العصيان، والبغي والكفران، وأرسلوا الرسل إلى طقطا وسائر أنسابنا بدست قفجاق، وأغروهم على إظهار الخلاف والشقاق، فوقفنا واطلعنا على ما يمكرون، وتوقفنا النظر بم يرجع المرسلون، فلما أتوا وقصوا العجب بما رأوا، وذكروا أنهم أمسكوا في البيوت إلى حين الإعادة، وقالوا هذه عادتنا وبئست العادة، وقد أتوا بمكتوب مسطور، على الوضع المذكور، فأفصح ذلك أنهم يتكبرون، وحيث يناسب التواضع يتجبرون، وإلا كيف يسوغ أن تكون مكاتباتهم مع المذكورين كذلك، والكتاب الذي أنفذ إلينا بذلك، لا سيما إذا زعموا الألية وخلوص النية، فما عساه أفضى إلى هذا الندا، كما أفضى مراراً فيما مضى، لكنه وصل الخبر حالته أنهم أنفذوا بيبرس بشبهة الحج مع جمع وافر، وعموا على ملوك مكة - شرفها الله تعالى - وأخذوهم بأنهم دعوا لنا في المواسم الشريفة، والمقامات المنيفة، وأي مسلم يقصد بيت الله الحرام، الواجب تعظيمه على كافة الأنام، وهو البيت المطهر للطائفين والعاكفين والركع السجود، ويستوي فيه الأمير والمأمور، والسلطان والجنود.
فحيث لم يبق من وجوه العدد شيء، تبيّن أن آخر الطبّ الكيّ، فشحذنا عرار العزم متوكلين واثقين، بما عودنا الله من النصر العزيز والفتح المبين، ونهضنا من قرب منا من الجنود، ورفعنا على السماك الألوية والبنود، عازمين على الإقامة هذه الصيفية بالشام، منتقمين لما في الضمير من الانتقام، والله المستعان وعليه التكلان.
وإنما المراد من تسطير هذا الفرمان الرابع: أنّا حيث نعلم أن أهل الشام من أهل الدهاء والفطنة، فلا يشاركون المصريين في الشر والفتنة، ولا يرون بما يؤول إلى وقوع المصريين في العذاب والمحنة، أردنا أن ننّبههم من رقدة الغفول، ونوضح لهم طرف الود والقبول، بينّا لهم أنهم هل وجدوا في قواعد الأصول والفروع، وصحائف المعقول والمشروع، وجهاً يقتضي أن يتبع من ليس إتباعه ضرورة، ولا نزلت في وجوبه آية ولا سورة، ويخالفوا من لاتعُارض شوكته، ولا تُطاق سطوته، فتصيبهم المحن والفناء، وينزل بساحتهم الجهد والبلاء، وها نحن قد وردنا بالجنود المجندة، والجيوش المؤيدة، وسيصل إلينا من الروم والكرج، وتكفور والإفرنج، عساكر لا تُحصى، كالنجوم في موعد مُقرر ووقت معلوم، ويكون مصيف الجميع ببلاد الشام وحواليها، وجبالها وصحاريها، فكشفنا القناع وركبنا الحجة، وقدمنا الوعيد وأظهرنا المحجة، وعقدنا النية بأنه كل من سلك سبيل مخالفتنا، ولم ينتهج طريق طاعتنا، فإنا نأمر برعي غلاتهم، وسبي أزواجهم وبناتهم، وبقطع أشجارهم، وبقتل صغارهم وكبارهم، ونحرق مساكنهم، ونتبع مخافيهم ومكانهم، ونجعل أطلالهم، ممحوة بالطمس، وأجسادهم كأن لم تغن بالأمس.