ثم رسم السلطان بأن يجهز شيني آخر عوض ذلك، فجهزوه وكانوا قد أحضروا رؤساء من الإسكندرية ودمياط، ثم سافروا إلى أن وصلوا إلى طرابلس ودقت بوقاتهم، ووجدوا أهل طرابلس أيضاً قد تجهزوا كما ينبغي مما يحتاجون إليه من العدد والنفط وآلات الحصار، ثم ركبوا نصف الليل ورئيت لهم الجزيرة وجه الصبح، وصاحوا بالتكبير والتهليل، وزعقت البوقات والطبلخانات، وقاموا في المقاديف قومة رجل واحد، فتوجه كل مركب بمقدمه على الميناء ونفر الفرنج أيضاً، فبينما يركبون مراكبهم سبقت مراكب المسلمين بمقدميها على الساحل، وتسابقت الفرسان من المقابلة إلى أن أحاطوا الساحل وتقاتلوا بالسيوف في الوجوه والصدور وبالرماح بالطعن في المحاجر والنحور، وانعزلت الجرخية ناحية والأقحية ناحيةً، ولم تتعال الشمس صبيحة ذلك اليوم حتى خذلت الكفار، وانتصرت ملة الإسلام، وملأوا من قتلاهم الأرض، ورجع من بقي إلى قلعتهم وأغلقوها، وزحفت الرجال إليهم، وأرسلوا سهامهم إلى من فيها، فثبتوا ساعة مقاتلين، ثم وقع كلهم ما بين قتلى وجرحى، وصاحوا طالبين الأمان، وسلموا أنفسهم، وملك المسلمون القلعة أيضاً، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة الثامن والعشرين من صفر عام ثنتين وسبعمائة، وأخذوا جميع ما فيها من حواصل وسلاح، ووجدوا فيها تجاراً ومعهم تجارة.

وكانت هذه القلعة اعتنى بها وبعمارتها صاحب قبرس مع جماعة من أكابر الفرنج على أنهم يتخذونها سكناً لهم ويسمونها عكا الصغيرة، ثم هدها المسلمون إلى أن صارت دكاً دكاً، فحصل للمسلمين بذلك السرور التام والشكر على دين الإسلام.

ذكر وفاة الخليفة

الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي القبي بن الراشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي ثم المصري.

بويع بالخلافة في الدولة الظاهرية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة في الخلافة، وكانت وفاته ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى منها بالمناظر المعروفة بالكبش بمرض عراه، وصلى عليه العصر بسوق الخيل، وصلى عليه الشيخ كريم الدين عبد الكريم الآملي شيخ الصوفية، ودفن بجوار مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، ومشى الأمراء والكبراء والقضاة والحكام والأعيان في جنازته إكراماً لمحله، وخلف من الأولاد سليمان، وهو أول من دفن بمصر من الخلفاء العباسيين.

وقال صاحب النزهة: وصلى عليه شيخ سعيد السعداء كريم الدين المذكور ومعه الصوفية كلهم، وحضر السلطان أيضاً جنازته، وصلى عليه بجامع ابن طولون.

وقال بعض معاصرينا في تاريخه: وتولى تغسيله والصلاة عليه شيخ الشيوخ كريم الدين عبد الكريم المذكور، وخلّف من الأولاد سليمان أبو الربيع وإبراهيم أبو إسحاق.

ذكر خلافة الإمام المستكفي بالله

بو الربيع سليمان بن الإمام الحاكم بأمر الله

بعهد من أبيه بويع له يوم وفاة أبيه، وتقدير عمره عشرون سنة، وخطب له على المنابر، واستمر في صحبة السلطان والركوب معه كأنهما أخوان، وفي اللعب بالصوالجة في الميدان، والسفر والتفرج في الصيد، وأجري له الإكرام والإحسان.

وقال ابن كثير: وكان أبوه عهد إليه وكتب له بذلك تقليداً، وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة منها، وكان يوماً مشهوداً.

ذكر مجلس عقد فيه لليهود

وفي شوال: عقد مجلس لليهود الخيابرة، وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتاباً معهم يزعمون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وضع الجزية عنهم، فلما وقف فيه الفقهاء تبينوا أنه كذب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة والتواريخ المخبطة واللحن، وحاققهم عليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وبين لهم كذبهم، وخطأهم وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية، وخافوا من أن يستعاد عليهم بالسنين الماضية.

وقال ابن كثير: وقد وقفت أنا على هذا الكتاب، فرأيت فيه شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي قبل ذلك بنحو من ثلاث سنين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم إذ ذاك وإنما أسلم بعد ذلك بنحو من سنتين، وفيه: كتب علي بن أبي طالب، وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين على أنه يسند إليه علم النحو من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015