والآن فحيث انتهت الأجوبة إلى حدها، وأدركت الآنفة من مقابلة ذلك الخطاب غاية قصدها، فنقول: إذا جنح الملك للسلم جنحنا لها، وإذا دخل في الملة المحمدية ممتثلاً ما أمر الله به مجتنباً ما عنه نهى، وانضم في سلك الإيمان، وتمسك بموجباته تمسك المتشرف بدخوله فيه لا المنّان، وتجنب التشبه بمن قال الله في حقهم: " قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان "، وطابق فعله قوله، ورفض الكفار الذين لا يحل له أن يتخذهم حوله، وأرسل إلينا رسولاً من جهته يرتل آيات الصلح ترتيلاً، ويروق جوابه وخطابه حتى يتلو كل أحد: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. صارت حجتنا وحجة المركبة على من خالف ذلك، وكلمتنا وكلمته قامعة أهل الشرك في سائر الممالك، ومظافرتنا له تكسب الكافرين هوانا، والمُشاهد لتصافينا يتلو قوله تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ".

وينتظم إن شاء الله شمل الصلح أحسن انتظام، ويحصل التمسك من الموادعة والمُصافاة بعروة لا انفصال لها ولا انفصام، وتستقر قواعد الصلح على ما يُرضي الله ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.

قال صاحب النزهة: وختم الكتاب وأرسل على يد الرسل الذين ذكرناهم من جهة السلطان صحبة الرسل الواردين من جهة قازان في العشرين من المحرم من هذه السنة.

ذكر ما جرى للأمير حسام الدين المجيري مع قازان

قال القاضي جمال الدين بن الكرم في تاريخه: قال المجيري لما حضرت بين يدي قازان أوقفني بعيداً منه وسألني عن أمور كثيرة وتحدث مع الحجاب، فكان أول كلامه لي: ما اسمك؟ قلت: أُزدمر. قال: لا أنتم تتسمون بأسماء ثلاثة، قلت: نعم. قال: وما هي أسماؤك أنت؟ قلت: حسام الدين أزدمر المجيري. قال: وما معنى المجيري؟ قال: فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان، نحن يشترينا التجار ونحن صغار، ثم يجلبوننا إلى البلاد، يُنسب كل منا إلى اسم تاجره أو لقبه، وكان اسم أستاذي الذي اشتراني مجير الدين. فقالوا لي: المجيري. قال: صدقت، ثم قال: ما جنسك؟ فقلت: تركي. قال: من أيّ الترك؟ قلت: من قفجاق. قال: صدقت.

قال المجيري: لما سألني قازان عن أشياء كثيرة، فجاوبته عنها، وعرف مني الصدق في القول، قربني إليه، ثم سألني عن أشياء أخرى منها: أنه قال لي: ما محلك عند السلطان - يعني الملك الناصر -؟ قلت: جندي. قال: جندي؟ قلت: نعم. قال: فنظر إلي وأطال نظره، ثم قال: مثل ملك مصر يُرسل إلي مثلي جندياً. قلت: نعم. قال: ما أنت أمير؟ قلت: نعم. قال: على بابك طبلخاناة. قلت: نعم. قال: فكيف تقول: أنا جندي. قال: فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان إنما الأمير هو جندي السلطان، والجندي هو جندي الأمير وكلنا جند الله، ثم قال لي: أنت مملوك هذا السلطان وشراء ماله. قلت: مملوكه ومملوك أبيه وأخيه، وهو الذي أحسن لي وأنشأني وعمل معي خيراً، وعمل على بابي طبلخاناة، وإنما أنا مملوك الملك الظاهر البندقداري، ثم قال لي: كم رأيت مصافاً؟ قلت: في نفسي ما للسكوت محل، فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان، إني كنت مع جدك هلاون نوبة تمرقابو، قال: لما سمع هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض، ثم التفت إلى شيخ من التركمان إلى جانبه وتحدث معه، ثم قال: كيف هربتم منا؟ فقبلت الأرض وقلت: عسكراً كثيراً لهم سنون يهربون منا، ونحن هربنا منكم مرة واحدة، وما كان هروبنا منكم خوفاً من كثرتكم ولكن احتقاراً بكم. قال الملك: كيف ذلك؟ قلت: يحفظ الله القان، نحن كسرنا التتر مرات عديدة مدة سنين من أيام جدك هلاون حتى صار ملتقاهم علينا أهون ما يكون، وإن عساكر مولانا السلطان الملك الناصر عساكر كثيرة وخلق عظيم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وإن لنا أعداء كثيرة من سائر الأقاليم، ولنا إقليم يُعرف ببلاد قوص، وهي تجاور بلاد السودان، تركنا فيها عشرة آلاف فارس، وتركنا أيضاً بإقليم يُعرف ببلاد دمياط مجاورة لأقاليم الإفرنج عشرة آلاف فارس، وكل هذا مع قلة اهتمامنا بالتتر، وكانت سعادة القان كبيرة، وكان في ذلك في الكتاب مسطوراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015