وأما ما جعلوه عذراً في الإقامة بأطراف البلاد وعدم الإقدام عليها، وأنهم لو فعلوا ذلك ودخلوا بجيوشهم ربما أفسد البلاد مرورها، وبإقامتهم فيها فسدت أمورها، فقد فهم هذا المقصود، ومتى ألفت البلاد والعباد منهم هذا الإشفاق؟، ومتى اتصفت جيوشهم بهذه الأخلاق؟، وها آثارهم موجودة، ودعاوى خلافها بمشاهدة الحال مردودة، وهل هذا اعتماد من رمق شخص الإسلام بإنسانه؟، كيف ورسول الله عليه السلام يقول: " المسلم من سلم الناس من يده ولسانه "، وأسارى المسلمين عندهم في أشدّ وثاق، في يد الأرمن والتكفور منهم يخالف ما أدعوه من الإشفاق.
وقد كان المسلمون غزوا عسكر أبغا وقتلوا من قتلوا من التتار، وحصل لهم التمكن في البلاد والاستظهار. واستولوا على ملك آل سلجوق ولا تعرضوا لدار ولا جار، ولا عفوا أثراً من الآثار، ولا حصل لمسلم منهم ضرر، ولا أوذي في ورد ولا صدر، وكان أحدهم يشتري قوته بدرهمه وديناره، ويأبى أن يمتد إلى أحد المسلمين يد أضراره، هذه سنة أهل الإسلام، وفعل من يريد لملكه الدوام.
وأما ما أرعدوا به وأبرقوا، وأرسلوا فيه عنان قلمهم وأطلقوا، وما أبدوه من الاهتمام بجمع العساكر، وتهيئة المجانيق إلى غير ذلك مما ذكروه من التهويل، فالله تعالى يقول: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ".
وأما قولهم وإلا فدماء المسلمين مطلولة، فما كان أغناهم عن هذا الخطاب، وأولاهم بأن لا يصدر عن ذلك جواب، ومن قصده الصلح والإصلاح، كيف يقول هذا القول الذي عليه فيه من جهة الله وجهة رسوله أي جناح؟ وكيف يضمر هذه النية، وينجح بهذه الطوية، ولم يخف مواقع هذا القول وخلله؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " نية المرء أبلغ من عمله ". وبأي طريق تهدر دماء المسلمين التي من تعرض إليها يكون الله له في الدنيا والآخرة مُطالباً وغريماً، ومؤاخذاً بقوله تعالى: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً ".
وإذا كان الأمر كذلك فالبشرى لأهل الإسلام بما نحن عليه من الهمم المصروفة إلى الإستعداد وجمع العساكر التي يكون لها الملائكة الكرام إن شاء الله تعالى من الإمداد، والإستكثار من الجيوش الإسلامية المتوفرة العُدد، المتكاثرة المدد، المدعوة بالنصر الذي يحفها في الظعن والإقامة، الواثقة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على عدوهم إلى يوم القيامة "، المبلغة في دين الله آمالاً، المستعدة لإجابة داعي الله إذ قال: " انفروا خفافاً وثقالاً ".
وأما رسلهم وهم فلان وفلان فقد وصلوا إلينا، ووفدوا علينا، فأكرمنا وفادتهم، وعززنا لأجل مُرسلهم من الإقبال مادتهم، وسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم، هذا مع كوننا لم يخف علينا انحطاط قدرهم، ولا ضعف أمرهم، وأنهم ما دُفعوا لأفواه الخطوب، إلا لما ارتكبوه من ذنوب، وما كان ينبغي أن يُرسل مثل هؤلاء لمثلنا من مثله، ولا يُندب لهذا المهم إلا من يُجمع على فصل خطابه وفضله.
وأما ما التمسوه من الهدايا والتحف، فلو قدموا من هداياهم حسنة لعوضناهم بأحسن منها، ولو أتحفونا بتحفة لقابلناها بأجل عوض عنها، وقد كان عمه الملك أحمد راسل والدنا السلطان الشهيد، وناجاه بالهدايا والتحف من مكان بعيد، وتقرب إلى قلبه بحسن الخطاب، فأحسن له الجواب، وأتى البيوت من أبوابها بحسن الأدب، وتمسك من الملاطفة بأقوى سبب.