وأما ما يتحججوا به مما اعتقدوه من نصرة، وظنوا من أن الله جعل لهم على حزبه الغالب في كل كرة الكرّة، فلو تأملوا ما ظنّوه ربحاً لوجدوه هو الخسران المبين ولو أمعنوا النظر في ذلك لما كانوا به مفتخرين، ولتحققوا أن الذي اتفق لهم كان غرماً لا غنماً، وتدبّروا معنى قوله تعالى: " انما نملي لهم ليزدادوا إثماً ". ولم يخف عنهم ما أبلته السيوف الإسلامية منهم، وقد رأوا عزم من حضر من عساكرنا التي لو كانت مجتمعة عند اللقاء لما ظهر خبر عنهم، فإنا كنا في مفتتح ملكنا، ومبتدي أمرنا حللنا بالشام للنظر في أمور البلاد والعباد، فلما تحققنا خبركم، وقفونا أثركم، بادرنا نقدّ أديم الأرض سيراً وأسرعنا لندفع عن المسلمين ضرراً وضيراً ونؤدي من الجهاد السنة والفرض، ونعمل بقوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة ردمن ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ".
فاتفق اللقاء بمن حضر من عساكرنا المنصورة، وثوقاً بقوله تعالى: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة "، وإلا فأكابركم يعلمون وقائع الجيوش الإسلامية التي كم وطئت موطئاً يغيظ الكفار، فكتب لها به عمل صالح، وسارت في سبيل الله يفتح الله عليها أبواب المناجح، وتعدّدت أيام نصرتها التي لو دققتم الفكر فيها لأزالت ما حصل عندكم من لبس، ولما قدرتم أن تنكروها، وفي تعب من يجحد ضوء الشمس، وما زال الله لها نعم المولى ونعم النصير، وإذا راجعتموهم قصّوا عليكم نبأ النصرة: " ولا ينبئك مثل خبير ".
وما زالت تتفق الوقائع بين الملوك والحروب، وتجري المواقف التي هي بتقدير الله فلا فخر فيها للغالب ولا عار على المغلوب، وكم من ملك أُستظهر عليه ثم نُصر، وعادوه التأييد فجبره بعدما كُسر، خصوصاً ملوك هذا الدين، فإن الله تكفّل لهم بحسن العقبى فقال سبحانه: " والعاقبة للمتقين ".
وأما إقامتهم الحجة علينا، ونسبتهم التفريط إلينا، كوننا لم نسّير إليهم رسولاً عند حلولنا بدمشق، فنحن عندما وصلنا إلى الديار المصرية لم نُزد على أن اعتددنا وجمعنا جيوشنا من كل مكان، وبذلنا في الإستعداد غاية الجهد والإمكان، وأنفقنا جزيل الأموال في جمع العساكر والجحافل، ووثقنا بحسن الحلف لقوله تعالى " مثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل ".
ولما خرجنا من الديار المصرية بلغنا خروج الملك من البلاد، لأمر حال بينه وبين المراد، فتوقفنا عن المسير توقف من أغنى رغبة عن حث الركاب، وتلبثنا تلبث الراسيات، " وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مرّ السحاب " وبعثنا طائفة من العساكر لمقابلة من أقام بالبلاد، فما لاح لهم منهم بارق ولا ظهر، وتقدمت فلحقت من حمله على التأخير الغرر، ووصلت الفرات فما وقعت للقوم على أثر.
وأما قولهم إنا ألفينا في قلوب العساكر والعوام أنهم فيما بعد يلتقوننا على حلب أو الفرات. وأنهم جمعوا العساكر ورحلوا إلى الفرات وإلى حلب مرتقبين وصولنا، فالجواب على ذلك أنه حين بلغنا حركتهم جزمنا، وعلى لقائهم عزمنا، وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ابن عم سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الواجب الطاعة على كل مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل معترض ومسلّم، طائعين لله ولرسوله في أداء فرض الجهاد، باذلين في القتال بما أمرنا الله غاية الاجتهاد، لا يتم أمر دين ولا دنيا إلا بمتابعته، ومن والاه فقد حفظه الله وتولاه، ومن عانده أو عاند من أقامه فقد أذله الله، فحين وصلنا إلى البلاد الشامية تقدمت عساكرنا تملأ السهل والجبل، وتبلغ بقوة الله في النصر الرجاء والأمل، ووصلت أوائلها إلى أطراف بلاد حماة وتلك النواحي، فلم يقدم أحد عليها، ولا جسر أن يمد حتى ولا الطرف إليها، فلم نزل مقيمين حتى بلغنا رجوع الملك إلى البلاد، وإخلافه موعد اللقاء، والله لا يخلف الميعاد، فعدنا لاستعداد جيوشنا التي لم تزل تندفع في طاعة الله تعالى اندفاع السيل، عاملين بقول الله تعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ".