قد ذكرنا كتاب قازان إلى الملك الناصر في السنة الماضية، وذكرنا نسخته.

وفي أول هذه السنة حصل الإهتمام بإعادة جواب كتاب قازان وإرسال الرسل إليه، فجهز إليه الأمير حسام الدين أزدمر المجيري أحد الأمراء، والقاضي عماد الدين بن السكري من أعيان القضاة والكبراء، وكتب الجواب على يدهما وأنشأ الكتاب وكتبه القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن عبد الظاهر.

ذكر نسخة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم: بقوة الله وميامين الملة المحمدية.

أما بعد حمد الله الذي جعلنا من السابقين الأولين الهادين المهتدين، التابعين لسنة سيد المرسلين بإحسان إلى يوم الدين، والصلاة على سيدنا محمد، والسلام على آله وصحبه الذين فضل الله من سبق منهم إلى الإيمان في كتابه المكنون. فقال سبحانه وتعالى: " والسابقون السابقون، أولئك المقربون ".

بإقبال دولة السلطان الملك الناصر. كلام محمد بن قلاون.

فليعلم السلطان المعظم محمود غازان أن كتابه ورد، فقابلناه بما يليق بمثلنا لمثله من الإكرام، ورعينا له حق القصد فتلقيناه منا بسلام، وتأملناه تأمل المتفهم لدقائقه، المستكشف عن حقائقه، فألفيناه قد تضمن مؤاخذة بأمور، هم بالمؤاخذة عليها أحرى، معتذراً في التعدي بما جعله ذنوباً لبعض طالب بها الكل، والله يقول: " ولا تزر وزرة وزر أخرى ".

أما حديث من أغار على ماردين فمن رجّالة بلادنا المتطرفة، وما نسبوه إليهم من الإقدام على الأمور البديعة، والأحوال الشنيعة. وقولهم إنهم أنفوا من تهجّمهم، وغاروا من تقحمهم، واقتضت الحمية ركوبهم في مقابلة ذلك، فقد تلمّحنا هذه الصورة التي أقاموها عذراً في العدوان، وجعلوها سبباً إلى ما ارتكبوه من طغيان فالجواب عن ذلك أن الغارات من الطرفين، لم يحصل من المهادنة والموادعة ما يكف يدها المتدة ولا يغير هممها مستعدة، وقد كان آباؤكم وأجدادكم على ما علمتم من الكفر والنفاق، وعدم المصافاة للإسلام والوفاق، ولم يزل ملك ماردين ورعاياه منفذين ما يصدر من الأذى للبلاد والعباد، عنهم متوليّين، كبر مكرهم، والله تعالى يقول: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم ".

ومن حيث جعلتم هذا جنباً موجباً للحمية الجاهلية، وحاملاً على الانتصار الذي زعمتم أن هممكم به مليّة، فقد كان هذا القصد الذي ادعيتموه يتم بالإنتقام من أهل تلك الأطراف التي أوجب ذلك فعلها والاقتصار على أخذ الثأر ممن ثار، اتباعاً لقوله تعالى: " وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها " لا أن تقصدوا الإسلام بالجموع الملفقة على اختلاف الأديان، وتطأوا البقاع الطاهرة بعبدة الصلبان، وتنتهك حرمة البيت المقدس الذي هو ثاني بيت الله الحرام، وشقيق مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن احتججتم بأن زمام تلك الغارة بيدنا، وسبب تعدّيهم من سببنا، فقد أوضحنا الجواب عن ذلك، وأن عدم الصلح والموادعة أوجب سلوك هذه المسالك.

وأما ما ادعوه من سلوك سنن المرسلين، واقتفاء آثار المتقدمين في إنفاذ الرسل أولاً، فقد تلمحنا هذه الصورة، وفهمنا ما أوردوه من الآيات المسطورة، والجواب عن ذلك أنهم ما وصلوا إلاّ وقد دنت الخيام من الخيام، وناضلت السهام عن السهام، وشارف القوم القوم، ولم يبق للقاء إلاّ يوم أو بعض يوم، وأشرعت الأسنة على الجانبين، ورأى كلّ خصمه رأي العين، ولا نحن ممن لاحت له رغبة راغب، فتشاغل عنها ولها، ولا ممن يسالم فيقابل ذلك بجفوة النفار والله تعالى يقول: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ". كيف والكتاب بعنوانه، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما أضمر الإنسان شيئاً إلاّ أظهره الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه. ولو كان حضور هؤلاء الرسل والسيوف وادعة في أغمادها، والأسنة مستكنةٌ في أعوادها، والسهام غير مفوقة، والأعنة غير مطلقة، لسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم.

وأما ما أطلقوا به لسان قلمهم، وأبدوه من غليظ كلمهم في قولهم: فصبرنا على تماديكم في غيّكم، وإخلادكم إلى بغيكم، فأيّ صبر ممن أرسل عنانه إلى المكافحة، قبل إرسال رسل المصالحة، وجاس خلال الديار، قبل ما زعمه من الإنذار والإعذار، وإذا فكروا في هذه الأسباب، ونظروا فيما صدر عنهم من خطاب، علموا الغدر في تأخير الجواب، وما يتذكر إلاّ أولوا الألباب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015