أما السلطان فإنه رجع في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك، وسار إلى مصر، وسافر جماعة من أهل دمشق من أعيانها وغيرهم إلى مصر كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضى المالكية جمال الدين الزواوي، وتاج الدين بن الشيرازي وعلم الدين الصوافي والي البرّ، وجمال الدين بن النحاس والي البلد، والمحتسب، وغيرهم وبقيت دمشق شاغرة ليس فيها حاكم ولا رادع سوى نائب القلعة علم الدين أُرْجواش، وهو مشغول عن البلد بالقلعة، وأما العسكر تفرقوا في كل ناحية ووصل بعضهم إلى القلاع القريبة من مكان الوقعة، ونجى بنفسه من كان فيه نهضة، وتوجه أقوام إلى جبال بعلبك وغيرها جياعاً عُراة مشاة، وتخطفت الجبلية بعض من سلك تلك الطرق وقتلوا منهم ونهبوا وسلبوا، فكان هؤلاء عدواً ثانياً، وكل من كان يهرب يرمي خوذته من رأسه ويقطع قرقله بالسكين إذا لم يلحق لحلها ويقطع البركستوان المثمنة، وكل ذلك قصداً للتخفيف.
قال صاحب النزهة: ورأيت جماعة من مماليك السلطان تخرج من وسطه كيس الفضة ويناوله لرفيقه، فإن لم يأخذه سريعاً وإلاّ يرميه من يده إلى الأرض ويسوق. قال: ورأى الأمراء البرجية مع حسن أشكالهم وتزين لباسهم قد صاروا قطعة واحدة هاربين منهزمين، وقازان في أعقابهم وقد بسط جيشه من الجانبين وانفرد هو بنفسه في صدر جيشه ورجل قدامه وبين يديه على فرسه طبل أكبر من طبل الجمالق يضربه ساعة بعد ساعة ضربة واحدة، وكلما سمعها الجيش زادت هزيمتهم وهربت فرقة منهم إلى ناحية البرية وسلكوا فيها وهلكوا بأجمعهم، وفرقة سلكت ناحية البحر المالح فهلكوا، ولم يسلم منهم إلاّ الفرقة التي سلكت الطرق التي يُسلك فيها، ولكن الذين سلكوا الجبال قاسوا من أهلها ما قاسوا مثله من التتار، وقتل من المسلمين خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى.
وقال صاحب النزهة: وكان وصولنا إلى قلعة حمص والشمس في الغروب، فوجدنا أهلها فوق الأسوار يبتهلون إلى الله عز وجل بالدعاء وكانوا ينادون: يا مسلمون الرجعة الرجعة لا تسلمونا إلى العدو، يا مسلمون المروءة المروءة، ولم يلتفت إليهم أحد، فتباكوا وبكت الناس وبكى السلطان الناصر، ثم قال للأمير حسام الدين: يا أبي أنت ما قلت إن المسلمين يقفون ويقاتلون نوبة ثانية في حمص ومالي لا أنظر أحداً يقف ويقاتل. فقال: يا خوند ما يقاتلون إلا في دمشق وقصدهم أن يستجروا العدو حتى يتبعوهم ويدخلوهم في مواضع ليس لهم خبرة بها، وكل ذلك يريد به التعلل للسلطان لئلا يزداد خوفه.
قال الراوي: وما وصلنا إلى حمص إلا وأكثر الخيل قد وقفت ولم تتحرك خصوصاً خيول الأمراء والمماليك الموقرة، ولما دخل الليل انقطع التتار من خلف عسكر المسلمين. قال: ثم وصلنا إلى بعلبك صبيحة الجمعة ونحن كلنا محتاجون إلى قوت أنفسنا ولخيولنا، فوجدناها قد أغلقت، وصعدت أهلها على الأسوار وكانوا يتناولون الفضة بالحبال، فمنهم من يُعطى ما يطلبه صاحب الفضة ومنهم من يأخذ الفضة ويغيب من فوق السور ولا يراه أحد.
قال: ثم أصبحنا يوم السبت ودخلنا إلى دمشق وتلقتنا أهلها بالويل والثبور، وما أقمنا فيها غير ساعة واحدة ووقع الصياح بأن طوالع العدو قد لاحت، فخرجت الناس لا يلتفتون إلى شيء، وأكثرهم خرجوا بلا زاد، وأما أهل دمشق فمنهم من طلع القلعة ومنهم من توجه نحو القدس والخليل عليه السلام، ومنهم من طلب قلعة صفد وقلعة كرك، ومنهم من أقام وتوكل على الله، وصارت الناس كأنهم يُساقون إلى المحشر يوم القيامة، فلا يلتفت الأخ إلى أخيه ولا الأب إلى ابنه ولا المملوك إلى سيده.