قال الراوي: وأما الفرقة التي كان سفرهم على الساحل فإنهم قاسوا شدة عظيمة من أهل جبل كسروان، فكانوا ينزلون إليهم ويمسكون عليهم المضايق، ويأخذون الجندي قبضاً بالكف، ويأخذون ما معه، ويرسلونه عرياناً إذا أحسنوا إليه، وربما يقتلونه أو يرسلون عليه حجراً من فوق فيهلك هو وفرسه، وكانوا قد استوقفوا جماعة كثيرة عن المسير، وقصدوا أن يأخذوا منهم ما يريدونه حتى يفتحوا لهم الطرق، فاتفق في ذلك الوقت حضور طائفة من العسكر الذين هم صحبة الأمير بدر الدين أمير سلاح، وصحبته الأمير بلبان الطباخي نائب حلب وجماعة من الأمراء، فلما رأوا ذلك حملوا عليهم وأزاحوهم عن الطريق، فرجعوا، واجتمعوا جماعة كثيرة ووقفوا لمنع الأمراء أيضاً، فلما رآهم الأمير بدر الدين مصممين على القتال رسم الذين معه أن يترجلوا وأن لا يتهاونوا في أمرهم كيلا يدركهم التتار فيكونون بين العدوين، فترجلوا وزحفوا عليهم وقتلوا منهم جماعة، فقام القتال بينهم من ضحوة النهار إلى الظهر، وجُرحت من جماعة أمير سلاح خلقٌ، فآخر الأمر كسروهم وفتحوا الطرق وذهبوا، وبعض الأمراء وراءهم ساقة لهم إلى أن وصلوا إلى غزة، وأقام أمير سلاح فيها ينتظر المنقطعين من العسكر، والتحق به جماعة كبيرة من الناس والجند والأمراء، وهو يُداوي المجروح، ويركّب الراجل، ويكسو العاري، ومن جملة ما وجده في غزة القاضي فتح الدين بن القيسراني، فأركبه وكساه وصحبه إلى القاهرة.
وأما قازان، فإنه لما رأى أن جيش المسلمين قد انهزموا فرح فرحاً عظيماً، وقصد أن يلحق المسلمين، فمنعه الأمير قفجق وقال له: لا تعجل فربما يكون لهم كمين ويكون انهزامهم هذا مكيدة منهم، فقبل كلامه وتوقف عن اللحوق بهم، وإلا لو مشى وراء المسلمين لكان أخذ الجميع.
ولما أصبح يوم الخميس ورأى أن أخبار السلطان والعسكر قد انقطعت اطمأن، وسيّر إلى حمص وأخذ ما وجد فيها من الأموال والودائع والذخائر، وقبض على من وجد فيها من الجند من الجرحى والمنقطعين، وفيهم جماعة من الكتاب والموقعين وممن وقف فرسه، ثم اقتضى رأيه أن يجّرد أميراً يسمى بوري ومعه جماعة يكشفون الخبر، ثم توقف من ذلك خوفاً أن يكون في الطريق جماعة من عسكر السلطان يشوشون عليه، ثم أرسل شخصاً على هيئة جاسوس ليكشف خبر السلطان هل هو أقام بدمشق أم راح إلى مصر؟، فخرج الرجل وغاب يوماً وليلة، ثم جاء وأخبر أن دمشق خالية ليس فيها لا سلطان ولا عسكر.
ولما سمع بذلك أمر بالمسير إلى الشام، لكنه انتظر المنهزمين من عسكره، ثم رجع هو إلى مكان الوقعة وهو وادي الخزندار، بينه وبين تربة خالد بن الوليد رضي الله عنه مسافة نصف يوم أو دونه، فوجد هناك بعض الجند جرحى ممن وقع في الوقعة، ووجد من أصناف الأسلحة والأقمشة المفتخرة والحوائص الذهب والكلوتات الزركش والأكياس من الذهب والفضة ما لا يوصف، وكذلك من السروج الزركش والبركستوانات والقرقلات والخوذ ما عجزوا عن حمله، وأما الدواب من الخيول المسومة فكان شيئاً كثيراً واقفة من مكان المصاف إلى قرب حمص، ورأى قازان من هذه الأشياء ما أذهله عن عقله، فإن الدولة كانت جديدة وأمراؤها كانوا يفتخرون بأنواع الزينة، وكل منهم كان يريد أن يزيد على صاحبه بالعدد المفتخرة والأشياء الحسنة.
وكان من جملة من أسره من حمص برهان الدين المنجم، فلما أحضروه بين يدي قازان عرفه قفجق وبكتمر وقالا لقازان: هذا منجم عارف، فلما رآه قازان أحضر إليه ابن الخواجا نصير الدين الطوسي حكيم الزمان، وكان هو عند قازان حكيماً ومنجماً، كما كان أبوه نصير الدين عند هلاون وأمثاله، ولما قدم هلاون الشام كان الخواجا نصير الدين معه كما ذكرنا.