ثم خرج السلطان بجيش من دمشق يوم الأحد السابع عشر من ربيع الأول من هذه السنة، ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج خلق كثير من المطوعة. ولما وصلوا إلى حمص ضربوا الدهليز بها، وشرعوا يرسلون إلى العرب ويخبروهم بمجيء العدو. وشرعت الناس يتلقطون نصرة العدو على المسلمين، واشتهر ذلك بينهم، فوقع الجفل والخوف فيهم حتى أن المقدم الذي كان مضافيه خمسين نفساً أو أربعين يفتقدهم إذا كثروا قدر عشرين أو خمسة وعشرين، فصار رجال الحلقة يقول بعضهم لبعض: يا فلان من أش تنفع هذا وقت الغيبة خلّ البرجية الذين يأكلون مصر يقاتلون العدو.

ثم تواترت الأخبار بأن التتار وصلوا إلى وادي الخزندار عند سلمية، فسارت العساكر إليهم ليهجموا عليهم، وقطعوا ثلاث مراحل في مرحلة واحدة، فلما أشرفوا على مجمع المروج ركب التتار وطلَّبوا، وكان قازان فيهم وصحبته الأمراء المتوجهون إليه وهم: سيف الدين قبجق، وسيف الدين بكتمر السلاح دار، وفارس الدين ألبكى الظاهري، وسيف الدين عزاز الصالحي.

ولما أشرفوا على طلائع العدوّ نادت الحجاب والنقباء بين العسكر بأن يرموا رماحهم ويعتمدوا على الضرب بالسيوف، وكان هذا من سوء التدبير وعلامة الخذلان، فرمى جميع العسكر ما بأيديهم من الرماح إلى الأرض فحصل للخيل ضرر كثير منها لمصادمة حوافرها على أسنة الرماح وهي مطروحة على الأرض، وكان كل سنان منها يساوي مائة درهم إلى خمسين درهماً، فنظروا إلى التتار وقد ملأوا الأرض.

ثم شرعت الأمراء والحجاب في ترتيب الجيش، ورتبوا في رأس الميمنة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنى وأخاه فضلا، ومعهما آل مرا وآل علىّ وآل كلب وجميع العربان، ونائب حلب ونائب حماة بعساكرهما، وفي الميسرة بدر الدين بكتاش الفخري، والأمير جمال الدين قتّال السبع، والأمير علم الدين الدواداري، وطغربل الإيغاني، والحاج كرت نائب طرابلس، وطلب الأمير حسام الدين لاجين الأستادار وفيه الأمراء الطبخانات من بقية الظاهرية ومضافوها، وفي القلب جمهور العسكر وفيهم سيق الدين سلار، وركن الدين بيبرس، وسيف الدين برلغي ومضافوه وسيف الدين قطلوبك الحاجب ومضافوه، والأمير عز الدين أيبك الخزندار ومضافوه، وجعلوا الجناحين المماليك السلطانية، ورتبوا أن يكون الأمير حسام الدين لاجين الأستادار صحبة السلطان يحفظه، وجعلوه في موضع بعيد عن الملاقاة خشية عليه، ورسموا للأمير علم الدين أن يكون سنجق السلطان منعزلاً عنه كي لا يُعرف أنه تحت الأعلام فيُقصد، ورتبوا جماعة من الزراقين نحوا من خمسمائة مملوك في مقدمة الجيش.

وفي ذلك الوقت حصل للأمير بيبرس إسهال مفرط وحرارة عظيمة حتى ما بقى يمكنه الركوب على الفرس ولا الثبات على ظهره، فأركبوه المحفة، وأبعدوه عن الملاقاة.

وأخذ الأمير سلار الحجاب ومعهم الفقهاء، وداروا على العسكر جميعهم، وهم يتلون الآيات المناسبة للجهاد، ويحرضون للجهاد وتوطين النفس على الملاقاة حتى غشى الناس البكاء والتوجع.

وأما قازان فإنه طلب مقدمى التوامين وأمرهم أن أحداً منهم إذا رأى جيش المسلمين لا يحمل عليه ولا يتحرك من مكانه إلى حين يرى غريمه يدخل عليه، وأراد بذلك تضعيف خيل المسلمين وكسر همة الفرسان، وأن يمكّن رماته من رمي السهام، لأن ذلك أثبت لهم وأسكن، وكذلك كان، فإنه لما وقعت الصدمة، وتحركت العساكر، وأوقد الزراقون نفطهم، واعتقد المسلمون - على ما عهدوه من اللقاء في المصاف - أنه ساعة يحمل الجيش يحمل أيضاً جيش العدو، فتقع الصدمة من الطائفتين، ويعطي الله النصر لمن يشاء.

ولما حملت العساكر وخرجت الخيول بقوة بأسها، وحدة شوطها، حتى قربوا من وجه العدو، لم يتحرك منهم أحد، ولا انزعج جيشهم، فلما شاهدوا ذلك منهم قلّ عزمهم، وانطفأ النفط الذي كان مع الزراقين في مقدم الجيش، لأنهم كانوا أوقدوه من بُعد على أنهم يتقدمون لهم، فبينما تقدم عسكر المسلمين إليهم مع بعد المسافة وثبات العدو وعدم حركتهم فرغ البارود، وبردت الهمة، بُعيد ذلك حملت التتار حملة صادقة حتى اختلطوا بالمسلمين، وأصابت سهامهم خيلاً كثيراً منهم، ورموا فرسانها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015