وأول ما أرجفوا طائفة العرب بأن أوهنوهم وأوهنوا خيولهم بالسهام، فكانوا سبب كسر الميمنة وفسادها، فإن الميمنة ولّت على أعقابها، فجاءت الهزيمة على الجيش الحلبي، فاستقلوا بأنفسهم، وأدركهم الموت، فرجع العسكر الحلبي على العسكر الحموي، ولم يقف، وتمت الهزيمة على ميمنة المسلمين من ميسرة العدو.
وأما ميسرة الإسلام فإنها صدمت ميمنة العدو فقلقلتها وفرقت شملها.
ولما عاين قازان انهزام ميمنته اعتزل في نحو ثلاثين فارساً وأخذ عن جيشه جانباً، ثم ركبت أخرياتهم الذين لم يركبوا في الصدمة الأولى وردّوهم وقوّوهم، فانكسر المسلمون، " فإنا لله وإنا إليه راجعون ".
وكان السلطان الناصر قد انعزل في جمع قليل من المماليك، ومعه من الأمراء حسام الدين الأستادار لا غير، فكان يبكي وينظر إلى السماء ويقول: ياربّ لا تجعلني كعب الشؤم على المسلمين، ويدعو الله تعالى ويتضرع إليه ويريد أن يلقي نفسه بين القوم وحسام الدين الأستادار يردّه ويمنعه.
وقال صاحب النزهة: وكان الذي مع السلطان في ذلك الوقت اثني عشر مملوكاً من الشباب، وكنت أنا الثالث عشر.
وقال بيبرس في تاريخه: لما انهزمت المسلمون وولّوا تفرقت عساكرهم المجتمعون، ونهب العدو الخيول والعدد والخزائن والأسلحة، وتبعوهم إلى حمص ونزلوا عليها، ففتحها لهم متوليها بالأمان وهو محمد بن الصارم، وأخذوا الدهاليز السلطانية والبيوتات والوطاقات ورحلوا إلى دمشق.
وأما السلطان الناصر فإنه ساق بمن معه نحو بعلبك، ولو تربص في ذلك الوقت لكان أوقع نفسه بيده إلى التهلكة، فكان سبباً لفساد المملكة.
ولقد فعل الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي يوم بدر مثل ذلك، وقال معتذراً هنالك هذه الأبيات:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبة فيهم ... طعماً لهم بعقاب يوم مفسد
كانت الوقعة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، واستشهد فيها جماعة فازوا بالثواب الجزيل منهم: الأمير سيف الدين كرت نائب السلطة بالفتوحات، وكان من الأمراء الأعيان الفرسان الشجعان، وكان كثير الصدقة والخير والمعروف، وله أوقاف على وجوه البر والصدقات، وكان مشهوراً بالنخوة والمروءة، وكان عمل حاجباً، وأمير آخور، ونائب طرابلس والفتوحات.
ومنهم: الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير عز الدين الحلى، والأمير بدر الدين بيليك المنصوري المعروف بالطيار، وكان من أمراء دمشق.
ومنهم: الأمير سيف الدين نوكية التتري، مات من أثر جراحات أصابته، فحمل في محفة إلى أن توفى ودفن بأرض عسقلان أو قريباً منها، وكان هذا وصل مع الوافدين في الأيام الظاهرية وأقام قليلاً حتى مسكه الملك الظاهر وحبسه بثغر الإسكندرية، وأقام إلى أن تسلطن الملك المنصور قلاوون، ثم جعل له الأفراح وأعطى له تقدمة ألف.
ومنهم: الأمير جمال الدين بلبان التقوى، وكان من أمراء طرابلس، والأمير ركن الدين بيبرس العلمي، وكان نائباً بالمرقب. والأمير صارم الدين أزبك الطغريلي، وكان نائباً ببلاطنس. والأمير سيف الدين أقوش كرجي الحاجب.
وقال ابن كثير: واستشهد نحو ألف نفس من الحلقة والمماليك، وهؤلاء الأمراء منهم من كان استشهاده في المعركة، ومنهم من أصابته جراحة فيها فمات بعدها، وفقد في المعركة قاضي القضاة الحنفية حسام الدين الرازي، وأسر التتار عامة العوام والأتباع والغلمان والرعاع.
وقال صاحب النزهة: واستشهد أيضاً علاء الدين علي بن الشيخ الصالح إبراهيم الجعبري.