قد ذكرنا أن كرجى هو الذي قتله، وأن طقجى ومن معه لما قتلوا السلطان أتوا إلى دار منكوتمر فدقوا عليه الباب وقالوا له: السلطان يطلبه، فأنكر حالهم، وقال: إنكم قتلتم السلطان، فقال له كرجى: نعم يا مأبون، وجئنا نقتلك، فقال منكوتمر: قال أنا في جيرة الأمير سيف الدين طقجى، فأجاره، وحلف له أن لا يؤذيه، ولا يمكن أحدا من أذيته، ففتح باب داره، وتسلموه، وذهبوا به إلى السجن، كما ذكرنا مفصلا، ثم اغتنم كرجى غيبة طقجى وأخرجه من السجن، فذبحه من أذنه إلى أذنه، وأصبح كما قال الشاعر:
ومن يحتقر في الشر بئرا لغيره ... يبيت وهو فيها لا محالة واقع
وكان منكوتمر مملوكا من أحسن الأشكال، وأكمل صفات الحسن، وكان لاجين ممن يثق به، ويعتمد عليه في سائر أموره، ولما ولى الملك ولاه النيابة كما ذكرنا، وسلم إليه مقاليد الأمور، فتعاظمت نفسه، وساءت أخلاقه، ونفر منه النفوس، وعافته الأمراء وأرباب المناصب والكتاب، وأكبر ذنوبه عند الخاصة والعامة والذي أورث له ... منهم عند عمل روك البلاد، فإن السلطان قصد بذلك إصلاح أرزاق الجند، فرجعه عن قصده، ونقص أخبازهم، وتولى تفريقها، وكان يجلس في شباك دار النيابة ويفرق المثالات، وهو مولى الوجه، ظاهر الغضب ... ... فلم يكن أحد يجسر أحد على كلمة بين يده من خير أو شر.
وكان السلطان قد كبر كرجى وقربه، وجعله مقدما على المماليك السلطانية، وكان كلما حضر عند منكوتمر من عند السلطان في رسالة لا يأخذها منه بقبول، ويولى وجهه عنه، فإذا جاوبه، جاوبه بكلام غليظ منكر. وما سمع أنه دخل إليه في شفاعة وقبلها منه، وما زال يسعى عليه وعلى طقجى إلى أن وافق السلطان على إخراجهما إلى الشام، فوقفت الأمراء ومنعوه من ذلك، كما ذكرنا، وكان قصده إبعاد هؤلاء من عند السلطان، وإنشاء قوم من حاشيته وجهته.
وكذلك كان قصده في نواب البلاد، فأوقع ذلك في قلوبهم حزازات لا يحصى عددها، ونارا تتلظى ولا يسكن وقودها، ولا يمكن خمودها، حتى جرى ما جرى.
ولما جرى ما ذكرناه من قتل السلطان، ونائبه منكوتمر اجتمعت الأمراء للمشورة والتحدث في الأمور بينهم لسيف الدين طقجى، وسيف الدين كرجى، وأول ما بدأا فيه أن سيروا البريد إلى الشام وحلب، وكتبوا إلى النواب عما جرى من الأمور، وعرفوا نائب حلب الطباخى بأنهم قضوا الشغل الذي وقع عليه الاتفاق، وأمروه بأن يقبض على أيدغدى شقير الذي كان قصد منكوتمر أن يجعله نائب حلب، ويقبض على جاغان الذي هو نائب الغيبة في الشام، وهو الذي كان قصد منكوتمر أن يجعله نائب دمشق عوض سيف الدين قفجق.
ويقبض أيضا على حمدان بن صلغاى الذي أرسله السلطان إلى النواب، كما ذكرنا، ويقبضوا جميع الأمراء الحسامية.
وجعل الأمراء يحضرون كل يوم، ويجلسون على باب القلة، ويجلس الأمير طقجى مكان النائب، والأمراء الكبار في الميمنة والميسرة، ويمد سماط السلطان كما هي العادة.
ووقعت المشورة بينهم في أمر السلطان الذي يولى عليهم، فاتفقوا على إحضار الملك الناصر من الكرك، وإجلاسه على التخت.
والأمراء الكبار بالقلعة يومئذ الأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ الدار، والأمير عز الدين أيبك الخازندار، والأمير بدر الدين عبد الله السلحدار، والأمير سيف الدين كرد الحاجب، وطقجى في مكان النائب، والأمراء حوله، وديوان الجيش قدامه، وهو يأمر وينهى معتقدا أن الرقاع قد خلت، وأن البياذق قد تفرزنت.
ولما اجتمعت آراؤهم على إحضار الملك الناصر من الكرك ليجلس في السلطنة، لأنه صاحب البيت، وابن صاحبه، ووارث ملك أخيه وولده.