وقال صاحب النزهة: حكى لي بيجان مملوك الأمير شمس الدين قراسنقر حكاية غريبة اتفقت لأستاذه مع السلطان لاجين، وهي أنهما بعد قتل الأشرف خليل بن قلاون لما هربا ودخلا القاهرة، واختفى كل منهما في مكان، فاختفى شمس الدين قراسنقر في حارة بهاء الدين، واختفى لاجين في مأذنة جامع ابن طولون - على ما ذكرنا فيما مضى - رأى قراسنقر مناما عظيما في حق لاجين، فلما اجتمعا وهما مختفيان قال له قراسنقر: يا أشقر والله لقد رأيت رؤيا عظيمة، ولكن أخاف إذا قصصتها عليك تطمعك نفسك وتغير نيتك وتغدر بي. فقال لاجين: لا يكون ذلك إن شاء الله، فآخر الأمر أحضرا مصحفا شريفا وتحالفا، وأكدا اليمين أن أحدهما لا يخون الآخر؛ ثم شرع قراسنقر فقص المنام وقال: رأيتك راكبا وبين يديك خيول معقودة الأذناب مضفورة المعارف، مجللة الأرقاب على عادة مراكيب الملوك. قال: ثم نزلت وجلست على منبر وأنت لابس حلة الخلافة، وطلبتني فأجلستني بالقرب منك على ثالث الدرجات، وشرعت في الحديث معي، ثم رفضتني برجلك، فوقعت من المنبر، فاستيقظت عند وقوعي: وهذا يدل على قربي منك، ثم يجرى علي أمر من جهتك، ثم قال: يا أشقر النحس أنا والله حلفت وحلفتك فما أدري هل تثبت على يمينك أم لا؟ وبقى الأمر على هذا إلى أن تسلطن لاجين واستناب قراسنقر، ثم قبض عليه؛ ولكن أخلى له مكانا في بعض القاعات وأكرمه في محبسه؛ وأوصى أن تعمل له أطعمة مفتخرة، ولا تقطع من عنده فاكهة، ولا حلاوة، وكل ما يختاره من الأشياء المستطرفة، والمراسلات بينهما لا تنقطع، وكل وقت كان قراسنقر يسير إليه ويذكر له المنام المذكور ويسأل منه أن يجعل بشارة المنام الإفراج عنه وإرساله إلى أي مكان يشاء السلطان، وفي أثناء ذلك كان يذكره الأيمان المؤكدة بينهما، وكان السلطان كلما سمع من ذلك تبسم ويبعث إليه السلام ويقول له: ما بقى إلا قليل.
وتمادى الأمر على ذلك إلى ليلة الجمعة التي قتل فيها السلطان، فأرسل إليه السلطان السلام ومعه فاكهة، وقال للرسول: قل للأمير شمس الدين إني اشتهيت بسلة بلحم قديد، ولا آكلها إن شاء الله إلا وأنت معي، فلما سمع قراسنقر بذلك استبشر وفرح غاية الفرح، ولما كانت ليلة قتله أرسل إليه بسلة مطبوخة، واعتذر بأنه صائم ولا يمكنه أن يفطر على بسلة، وفي الجمعة الأخرى تكون عندي إن شاء الله، فلما سمع قراسنقر ذلك أرسل إليه إني منتظر لرؤيته ولو ساعة واحدة أو بكلمة واحدة، فإن في خاطري أن أراه قبل الموت، ولما سمع السلطان ذلك تبسم وقال للقاصد: اذهب إليه وسلم عليه، وعرفه أنه لا يجمعني وإياه إلا يوم القيامة، فلما ورد إلى قراسنقر ذلك قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقتل السلطان في تلك الليلة.
وحكى مجد الدين الحرمي وكيل بيت المال قال: كان السلطان متزوجا ببنت الملك الظاهر بيبرس، وكانت دينة عفيفة، فحكت أنها رأت في المنام ليلة الخميس قبل قتل السلطان بليلة كأن السلطان جالس في المكان الذي قتل فيه، وكان عدة غربان سود على أعلى المكان، وقد نزل منهم غراب فضرب عمامة السلطان فرماها عن رأسه وهو يقول: كرجى كرجى مرتين، فلما أصبحت ذكرت ذلك للسلطان وقالت له: أقم الليلة عندنا، فقال: ما تم إلا ما يقدره الله تعالى. ذكر هذا النويري في تاريخه.
وذكر صاحب النزهة: أن زوجة السلطان أرسلت خادمها وراء علاء الدين ابن الأنصاري، وكان له علم في تفسير المنامات، لأجل تفسير رؤيا رأته. فقال علاء الدين: إني ضعيف لا أقدر على الطلوع إلى القلعة، ولكن قل لها: تكتب المنام في الورقة وأنا أرد الجواب عنها، فعاد الخادم إلى الخاتون وأخبرها بذلك، فأرسلت إليه ورقة مكتوبة فيها أن الخاتون رأت السلطان جالسا وهي إلى جانبه وإذا بطائر يشبه العقاب انقض عليه واختطف فخذه الأيسر وطار به إلى أن طلع من دور القاعة، وطائر آخر قاعد على خشب دور القاعة في حلية الغراب وهو يصيح كرجى كرجى كرجى ثلاث مرات، فلما وقف عليها علاء الدين قال: أيها الخادم هذا لا يفسر إلا بعد ثلاث جمع. قال: وقصدت بذلك التسويف إلى أن تنقضى إما ثلاثة أيام أو ثلاث جمع أو ثلاث شهور، وعلمت أنه يظهر سر منامها عن قريب، فوقع قتله ثاني ليلة الرؤيا.