قال صاحب النزهة: حكى لي بعض الخدام المعزية أن قطز لما كان نائب نور الدين على المذكور أشترى لاجين وهو صغير للسلطان، ثم لما تسلطن قطز والتقى بالتتار على عين جالوت وكسرهم وعاد إلى الديار المصرية، قتل قريبا من الصالحية وتسلطن بعده الظاهر بيبرس، ولما تسلطن بيبرس شيع أولاد الملك المعز إلى بلاد الاشكرى وبقيت من جماعته بعض المماليك، وكان لاجين هذا منهم، فشرعوا في بيعهم، فاشتراه قلاون مع مملوكين آخرين، وبقى عند قلاون إلى أن تسلطن، فجاء إليه تاجره وادعى أنه لم يقبض ثمنه عند بيعه، فنودى عليه ثانيا واشتراه قلاون شراء ثانيا صحيحا بثلاثة آلاف درهم، وكان في مماليك قلاون مملوك اسمه لاجين وكان من أكابر مماليك قلاون.
فلما اشترى لاجين هذا قالوا له: لاجين الصغير، وكان بعضهم يسميه لاجين شقير لأنه كان أشقر أزرق العينين معرق الوجه طويلا، وذكر أنه كان جركسي الجنس، وكان شجاعا مهيبا، موصوفا بالشجاعة والإقدام، وفيه دين وعقل، وكان يلعب بالرمح ويرمى بالنشاب في غاية الاتقان، وظهرت له أمور من الشجاعة والإقدام في وقائع كثيرة خصوصا في نوبة أخذ طرابلس، وكان يصطلى الحرب بنفسه، ومما يدل على إقدامه ركوبه على الملك الأشرف وقتله، ثم ركوبه على السلطان الملك العادل كتبغا وقتل مماليكه.
وذكر عن القاضي حسام الدين الحنفي أنه لما بلغه تجهيز قازان لغزو بلاد الإسلام شاهده مرارا يصلي ويقف على قدميه ويكشف رأسه ويسأل الله أن يطيل عمره حتى يلتقي مع قازان وجيشه. قال: فقلت له ليلة: يا خوند كيف يكون عزمك إذا صح أمر قازان؟ قال: يا قاضي حسام الدين كنت أختار من عسكر مصر ألفى فارس ممن أعرف فيه النجابة والفروسية، وأصدم قازان حيث كان، ولو كان في عشرين ألف فارس، ويعطى الله النصر من يشاء، ولكن أنا خائف أن يدركني الأجل قبل لقائه قال: قلت له: يا خوند الأعمال بالنيات.
وذكر في السلطان أنه لما كان نائبا بالشام كان في عنفوان شبابه، وكان مشغولا بلذة العيش في اللهو والشغف بالشراب، وكان يعايش كبراء دمشق ورؤسائها، ويتخذ لهم المجالس، وينعم ويهب، وكانت له مكارم كثيرة على أهلها، فلذلك أهل الشام كانوا يحبونه ويتعصبون له.
ومن كثرة انهماكه على الشراب واللهو والطرب بلغ الشجاعي خبره إلى السلطان الملك المنصور وعرفه أنه هتك حرمة السلطان بسبب معاشرته مع عامة دمشق وانهماكه على الشراب، فغضب السلطان عليه، وعرف الأمير حسام الدين النائب ما نقله الشجاعي عنه، فأخذ حسام الدين يرد عنه ويكذب الشجاعي ويقول: إنه صاحب غرض، ثم أمر السلطان بأن يكتب إليه كتاب، فكتب كتاب فيه توبيخ وتهديد ونهاه عن الشراب والمعاشرة مع أطراف الناس، وكذلك كتب إليه الأمير حسام الدين طرنطاى، فلما وقف على الكتابين قلل ما كان يرتكبه، وصار يقضى كثرة أوقاته في الركوب إلى الصيد ونحوه، ويغيب في ركوبه شهرا وشهرين، ويصحب معه الملاهي، وقطع على هذا لذة عظيمة من العيش، ولما كثر عليه العتب من السلطان رجعه طرنطاى وسد خلله إلى أن ترك ذلك كله.
وكانت أيامه من أحسن ما تكون من العدل والإحسان إلى الرعايا، وكان دينا خيرا، مشفقا، كثير الصوم والعبادة، وقطع أكثر المكوس، وقال: إن عشت لا تركت مكسا واحدا، ولكن نائبه منكوتمر كان على خلاف ما ذكر، وكان يعمل ما يختاره، فوقع في دولته الفساد وكان ما كان.
وكانت مدة مملكته سنتين وثلاث شهور، وقيل: ثلاث سنين وشهرين، وقيل: ثلاث سنين وستا وعشرين يوما، والأول أصح، وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة.