ثم خرج من عنده وشرع في تجهيز أمر الضيافة الهائلة، ورأى أن المخيم الذي فيه ما يسع للسلطان وحاشيته، فطلب أمير مجلسه وقال له: اذهب إلى منكوتمر وقل له يقول للسلطان إن مخيمي ضيق، ويكون مخيم السلطان في الموضع الفلاني، فجاء هذا إلى منكوتمر وبلغ الرسالة، ثم قال له: اجلس عندي حتى أبلغ السلطان ما قلته لي، ثم شرع معه في الحديث ولم يزل يستميله ويعد له بإمرة ومالٍ، وحلف له على ذلك على أن يذهب معه إلى السلطان ويقول له: إن أستاذي اتفق مع بعض الأمراء على أن السلطان إذا حضر إلى مخيم أستاذه يوقع به الأمر ويأخذ المملكة لنفسه، فاغتر هذا بقول منكوتمر ورضى بذلك، ثم قام منكوتمر وأخذه معه، فدخل على السلطان وقال له يا خوند: هذا قد حضر من عند البيسرى ومعه نصيحة للسلطان، وهو يقصد بذلك المكافأة عليها، فأخبر السلطان بما وقع عليه اتفاقهما، فشكره السلطان وأثنى عليه، ثم رسم السلطان بتجهيز الدهليز صحبة الفراشين إلى الجيزة وأعاد الرجل بالإجابة، فجاء إلى أستاذه البيسرى وأخبره بأن السلطان أجاب إلى ذلك وأن خيامه قد طرحت، فلما أصبح البيسرى طلع إلى الخدمة بناء على أن ينزل مع السلطان لميعاده على ما مضى من الاتفاق، فلما فرغت الخدمة، قال له السلطان: ميعادنا يكون يوم الأربعاء، فعند ذلك قام وأراد النزول، فلما وصل وسط الدهليز خارج باب النحاس قامت إليه مماليك كان السلطان قد أرصدهم هناك وأمرهم بأن بيسرى إذا وصل هناك يأخذوا سيفه ويمسكونه، فضربوا على الحلقة، وأخذوا سيفه من وسطه، ومسكوه، ووقع الضجيج بعد ذلك في القلعة، وبلغ إلى أهالي المدينة، فغلقت باب زويلة مقدار ساعة من النهار، فذهب الناس بجميع ما كان جهزه البيسرى للضيافة.
ثم رسم السلطان بالحوطة على جمع موجوده، وحبس جماعة من مماليكه، وفرح منكوتمر بذلك فرحا عظيما فإنه كان كلما يراه يتنكد ويتنغص.
وكان اعتماد المنصور في مسك الأمراء الظاهرية اعتماد أستاذه الملك المنصور قلاون فإنه لم يتم له الملك حتى مسك جماعة كبيرة من الظاهرية، وأول من مسك منهم كان البيسرى هذا، وأقام في الحبس تسع سنين وأيام إلى أن أفرج عنه الملك الأشرف على ما ذكرنا، ولما تولى لاجين أراد أن يفعل مثل فعل أستاذه قلاون.
ولما مسك بيسرى أرسل يقول للسلطان: هذا جزائي منك؟ وأقسم على كرجى وهو يقيده أن يبلغ هذا إلى السلطان، فأبلغ كرجى كلامه هذا إلى السلطان، فقال له: هذا جزاؤك، بل جزاؤك أكثر من هذا، وأنا ما أقدر أن أعمل معك ما عمله كتبغا معك من الإحسان، فكان جزاؤه منك ما فعلته في حقه، فكيف آمن إليك بعده؟ .
وفيها ورد الأمير حسام الدين مهنى بن عيسى، أمير آل عيسى، فتلقاه السلطان بالإكرام والقبول، وقد ذكرنا أن الملك الأشرف خليل لما مسكه كان قد سلمه إلى حسام الدين لاجين ليوصله إلى مصر، وأوصاه أن يطبق عليه، ولا يمكنه من الاجتماع بأحد، وحكى عن أخيه محمد بن عيسى أن من جار إحسان لاجين إلى أخيه مهنى أنا لما نزلنا خربة اللصوص في الليل، وانفرد لاجين عن الناس قلت: ويل لآل مهنى ما لهم من معين، ولا مخبر لأهلهم بخبرنا، والله إن هذه الطريق شين وتهم علينا، فقال لي أخي مهنى: اسكت، فنحن لا نبالي، ومعنا هذا الأشقر الذي تخافه العرب والترك، وأراد به لاجين. وكان لاجين يسمعه، فلما أصبحنا، وجدنا إنسانا على راحلة.