فلما كان يوم دار العدل واتفق خروجه من عند السلطان والنائب جالس في الشباك، فخرجت إليه الحجاب واحدا بعد واحد يقولون له: الأمير يختار أن يجتمع بخدمتكم، وهو لا يلتفت ولا يجاوب أحدا منهم إلى أن ألحوا عليه، فالتفت إلى القضاة الذين معه وقال للحجاب: قولوا له ما وجبت طاعته على، وقال للقضاة، أشهدكم أني عزلت نفسي. قولوا له: يولى من يختار، فرجعوا إلى الباب وعرفوه بما وقع فسكت، فلما نزل القاضي إلى المدينة أغلق بابه وأرسل النقباء إلى جميع النواب وأصحاب العقود أن أحدا منهم لا يحكم ولا يعقد عقد إلى أن يتولى قاض.

ثم في اليوم الثاني بلغ السلطان ما وقع من هذا، فطلب منكوتمر وصاح عليه وسبه وقال له: قد حكمتك في الجيش تتحدث فيهم، ما يكفيك حتى تدخل في أمر القضاة وتتحرش مع مثل هذا الرجل، ثم أرسل من وقته إلى القاضي يعتذر من ذلك الأمر وسأله الحضور إليه، فأبى القاضي وقال للقاصد: سلم على السلطان وقل له: إن القضاة كثيرون وقد جعل لي عذر في هذا الوقت يمنعني من الطلوع إليه، فلما عرفوا السلطان بذلك طلب الشيخ نجم الدين بن عبود والطواشى مرشد، وأرسلهما إليه وقال لهما: ثقلا عليه في الطلوع. فنزلا إليه وتكلما معه كثيرا، ثم قال له الشيخ نجم الدين: يا سيدي إن لم تطلع إلى السلطان فإنه ينزل إليك بنفسه، ولم يزالا به حتى قام معهما وطلع إليه، فتلقاه السلطان ونزل من مرتبته وأخذه بيده وأجلسه عليها، فأخرج القاضي من كمه خرقة فبسطها فوق الفرش الأطلس، فجلس عليها، ثم شرع السلطان يسأله في الولاية وألح عليه إلى أن قبلها، وتولى على عادته، ثم قال له: يا سيدي هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه، ادع له، فنظر إليه ساعة وصار يفتح يده ويضمها ويقول: منكوتمر؛ لا يجئ منه شيء - ثلاث مرات -، فلما قام أخذ السلطان تلك الخرقة منه على سبيل التبرك، ثم طلب الأمراء أيضا، فأخذ كل واحد منهم قطعة.

ذكر خروج العساكر إلى سيس

في جمادى الأولى منها: استشار السلطان لاجين الأمراء في أخذ سيس والغارة على بلادها، وكان ذلك الوقت وقت اختلاف المغول، فقصد السلطان بذلك أن يذكر أن في دولته أخذت حصون وأخمدت أعداء كثيرة، ثم أعرض الجيش وجرد في مصر تجريدة فيها الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، وشمس الدين آقسنقر كرتيه السلحدار، وسيف الدين بكتمر السلحدار، وسيف الدين بوزلار، والأمير سيف الدين أغرلو، والأمير علم الدين الدواداري الصالحي، والأمير حسام الدين، لاجين الرومي الأستاذ دار، وكتب كتابا لنائب الشام سيف الدين قبجق بأن يتجرد ويجرد معه ركن الدين جالق، والأمير سيف الدين بهادر آص، والأمير سيف الدين كجكن، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان، وكتب إلى نائب طرابلس أيضا أن يتجرد بعساكرها، وإلى نائب حماة كذلك، وإلى نائب صفد فارس الدين اليكى الظاهري كذلك.

فاجتمع هؤلاء مع الأمير سيف الدين بلبان الطباخي نائب حلب، وتوجهوا إلى سيس، وكان وصولهم إليها في شهر رجب الفرد، فشنوا الإغارة على أهلها، وأوقعوا بخيلها ورجلها، ودوخوا أرجاء حزنها وسهلها، وفتحوا تل حمدون والمصيصة وحموص وقلعة نجم وسروندكار وحجر شعلان والنقير وقلعة الهارونية.

قال بيبرس في تاريخه: وعادوا من هذه الغزاة إلى مدينة حلب، فأقاموا بها، فلم يشعروا إلا وقد وصل سيفد الدين حمدان بن صلغاى من الديار المصرية بكتاب المنصور إلى الأمير سيف الدين بلبان النائب بحلب بالقبض عليهم وهم راكبون في الموكب، فلما وقف المذكور على المراسيم لم يسعه إلا اعتمادها، فطلب الأمراء واستدعاهم لينزلوا ويدخلوا معه دار النيابة ويحضروا السماط، وكان قد وقع لهم بعض هذا الخبر، وخامرهم الخور، وتقسمت بهم الفكر، وامتنعوا من حضور الخوان، وتحققوا مكيدة منكوتمر الخوان، ومضوا إلى خيامهم، فجهزوا أحوالهم وركبوا من وقتهم، وجاءوا إلى حمص إلى الأمير سيف الدين قفجاق لأنه كان بها وعسكر في دمشق، فأطلعوه على الأخبار، واتفقوا معه على الفرار، وكان بحمص علاء الدين الطوان نائبا، فلم يستطع منعهم، ولا أمكنه صدهم، ووضعوا أيديهم عليه، واستصحبوه معهم إلى القريتين مربوطا، وقادوه مكرها مضبوطا، ثم أنهم أطلقوه فعاد راجلا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015