وفي تاريخ النويرى: اجتمعت البحرية على قتله بعد نزوله بفارسكور، وهجموا عليه بالسيوف، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار ملك مصر فيما بعده، فهرب المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور كما ذكرنا، فأطلقوا في البرج النار، فخرج المعظم من البرج هاربا طالبا للبحر ليركب في حراقته، فحالوا بينه وبينها بالنشاب، فطرح نفسه في البحر فأدركوه وأتموّا قتله في يوم الإثنين المذكور، وكانت مدّة إقامته في الملك من حين وصوله إلى الديار المصرية شهرين وأياما.

وقال أبو شامة: جرح في يده في دهليز الخدمة بعد السماط، فانهزم ودخل برج خشب، فأحرق، فرمى بنفسه منه إلى ناحية النيل، فأدرك، وقطع بقرية فارسكور.

وقال: أخبرني من شاهد ذلك انه ضرب أولا، فتلقى الضربة بيده، فخرقت يده، واختبط الناس، فأظهر ان ذلك كان من بعض الملحدة الحشيشية، ثم أشار بعضهم على الباقين بإتمام الأمر فيه. وقال بعد جرح الحية: لا ينبغى إلا قتلها، فركبوا وتسلحوا، وأحاطوا بخيمته وبرجه الخشب، لأنه كان نازلا في الصحراء بإزاء الفرنج، فدخل البرج خوفا منهم، فأمروا زراقا بإحراق البرج، فامتنع، فضربت عنقه، ثم أمروا زراقا آخر، فرمى البرج بنفط، فأحرقه، فخرج منه وناشدهم الله في الكف عنه، والإقلاع عما نقموا عليه، وطلب تخلية سبيله، فلم يجب إلى شيء من ذلك، فدخل البحر إلى أن وصل الماء إلى حلقه فرجع فضربه البندقداري بالسيف فرجع إلى الماء، وقيل: ضربه ضربة واحدة على عاتقه، فنزل السيف من تحت إبط اليد الأخرى، فوقع قطعتين، وكان قتله في أواخر محرم.

فانظر إلى هاتين الوقعتين العظيمتين القريبتين كيف اتفقتا في شهر واحد. إحداهما في أوله: وهى كسرة الفرنج الكسرة العظمى التي استأصلتهم.

والثانية في آخره: قتل للسلطان المعظم على هذا الوجه الشنيع.

وحكى عن السيف بن شهاب جلدك والى القاهرة، كان أبوه: أنه بقى على البرج وهو يستغيث برسول الخليفة: يا أبا عز الدين أدركنى، وتكرر ذلك، فركب في أمره، وكلمهم فيه، فردّوه وخوفوه بالقتل والإحراق، وإخراق حرمة الخلفة، وجرى ما ذكرناه.

قال السبط: وكانو قد جمعوا في قتله ثلاثة أشياء: السيف والنار والماء، فإنهم قتلوه وقد التجأ إلى البحر.

قال: وحكى لى العماد بن درباس قال: رأى جماع من أصحابنا الملك الصالح أيوب في المنام وهو يقول:

قتلوه شر قتله ... صار للعالم مثله

لم يراعوا فيه إلا ... لا ولا من كان قبله

ستراهم عن قريب ... لأقل الناس أكله

فكان كما ذكر من اقتتال المصريين والشاميين، ومن عدم فيهم من أعيان الأمراء.

ذكر سلطنة شجر الدُّر حظية الملك الصالح أيوب

ولما قتلوا المعظم اجتمعت الأمراء واتفقوا على أن يقيموا شجر الدرّ في المملكة، وأن يكون عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحى المعروف بالتركمانى أتابك العساكر، وحلفوا على ذلك، وخطب لشجر الدر على المنابر، وضربت السكة بإسمها، وكان نقش السكة: المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة الملك المنصورخليل، وكانت شجر الدرّ قد ولدته من الصالح أيوب ومات صغيرا كما ذكرناه، وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع: والدة خليل المستعصمية.

ذكر تسلم دمياط من الفرنج ورحيل ريدافرنس

ولما تم النصر الأعظم والفتح الأكبر بتسلم دمياط من الفرنج من ريدافرنس أفرج عنه عن الحبس، وكان المتحدّث مع ريدافرنس في ذلك الأمير حسام الدين ابن أبي علىّ الهذبانى، لما يعلمون من عقله ومشورته، واقتداء مخدومهم بتدبيره، فتقرّر الاتفاق علىتسليم دمياط وأن يذهب هو بنفسه سالما، فأرسل ريدافرنس إلى من بدمياط يأمرهم بتسليم البلد إلى المسلمين، فأجابوه إلى ذلك، ودخل العلم السلطانى إليها يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر، وأفرج عن ريدافرنس، وانقتل هو ومن بقى من أصحابه إلى البر الغربىّ، وركب البحر هو ومن معه، وأقلعوا إلى عكا، ووردت البشرى بذلك إلى البلاد، وضربت البشائر، وأعلنت الأفراح.

وفي كسرة ريدافرنس يقول القاضى جمالالدين بن مطروح رحمه الله:

قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال حق صادر عن نصيح

آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح

طور بواسطة نورين ميديا © 2015