وفيه: لما قرب هؤلاء من القاهرة أمر السلطان لسائر الأمراء والعسكر إلى لقائهم، فخرجوا، وخرج أهل المدينة كافة، وكان يوما مشهودا، ثم أنعم على مقدميهم طرغاى بطبلخاناة، وكان عزم على أن يعطيه إمرة مائة وتقدمة ألف، فأشار عليه الأمراء أن يكون طبلخاناة وبعد قليل يكبره، وأنعم على ألوص بإمرة عشرة، والبقية بأخباز وإقطاعات، وعظمهم تعظيما عظيما، فصار طرغاى يجلس مع مقدمي الألوف، وتزايد ضرر العالم بالغلاء والويل، ورأت السوقة من تلك الطائفة وسوء أخلاقهم وبذاذة نفوسهم ما كرهوه، وقصد الأمراء بعد اتفاقهم مع السلطان أن يتحدثوا في أمر إسلامهم واشتمالهم على الدين الحنيفي، وأن يتعلموا فرائض الإسلام، فتحدث السلطان مع طرغاى في هذه القضية، فلم يجد لهم قابلية في ذلك الوقت، وعرف الأمراء أنهم يحتاجون إلى تطويل المدة فيهم والتدريج بأمرهم قليلا قليلا.
قال ابن كثير: وفي يوم السبت الثاني عشر من جمادى الأولى ولى قضاء القضاء بالديار المصرية الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد، عوضا عن تقي الدين بن بنت الأعز.
ثم أرخص الناس بمصر، وزال الضرر والجوع في جمادى الآخرة.
وفيها في رجب: وقعت صاعقة على قبة زمزم فقتلت الشيخ علي بن محمد بن عبد السلام مؤذن المسجد الحرام، كان يؤذن على سطح القبة المذكورة، وكان قد روى شيئا من الحديث، رحمه الله.
وفي نزهة الناظر: والسبب لذلك أن الأمراء الأكابر لم يعجبهم ما فعله السلطان مع الأويراتية من كثرة الإكرام وعلو منازلهم ورفعتهم فوق غيرهم، واتفق أنه دخل شهر رمضان المعظم ولم يروا أحدا منهم صام؛ بل رأوا أكثرهم مفطرين، فخاطب الأمراء السلطان في ذلك وقالوا: ينبغي أن يخاطب هؤلاء في الإسلام ويتعلمون شرائع الدين، ولا يمكن أن هؤلاء في بلاد الإسلام وفي مملكة مصر على غير دين الإسلام، فلم يرجع إلى شيء من كلامهم، فقال: لا يشوش أحد عليهم، فخلوهم يكونون على دينهم.
فوجد الأمراء من ذلك أمرا عظيما مع تطاول مماليكه وحاشيته عليهم، وعلى الناس من كثرة المظالم والحمايات، مع ما اتفق من الغلاء والوباء، فاتفق الأمراء فيما بينهم على عزله من الملك، ولم يجدوا لذلك سبيلا غير أن يشيروا عليه بخروجه إلى السفر ليحصل لهم الغرض، فأخذوا معه في ذلك، وحسنوا له الخروج لافتقاد أمور البلاد والعباد، وعرض العساكر ونواب القلاع، ولتكون أيضا سمعة في بلاد العدو أن السلطان قد خرج ومعه العساكر، وأيضا يحصل التخفيف في الديار المصرية من العساكر.
فأجابهم إلى ذلك، وخرج في العشر الأخير من شوال من هذه السنة، فقدم دمشق يوم السبت نصف ذي القعدة، ودخلها والأمير بدر الدين بيسرى حامل الجتر على رأسه.
قال صاحب النزهة: وخرج نائب الشام إلى ملتقاه، ولم يجد أهل الشام محتفلين له كعادة الملوك المتقدمة عند دخولهم، فطلب الوالي وأمره أن يخرج أهل دمشق إلى الملاقاة، ويوقدوا الشمع، ويظهروا الفرح بقدوم السلطان، ويزينوا المدينة، فركب الوالي وفعل ما أمره، ففعلوا ذلك مكرهين من غير خاطر، وأعلنوا بالدعاء للأمير حسام الدين لاجين ومماليك السلطان مثل بتخاص والأزرق وغيرهما، علموا ذلك وشاهدوا، فلم تطب خواطرهم، وعرفوا بذلك السلطان وأغروه على نائب الشام وأهلها، فطلب الصاحب فخر الدين بن الخليلي واتفق معه على مصادرة جماعة من دواوين الشام ومباشريها، فرسم عليهم وعلى شمس الدين سنقر الأعسر مشد الدواوين، وعلى الأمير سيف الدين اسندمر كرجى متولى البر، وشرف الدين بن فضل الله كاتب السر بدمشق، واستخرج من أهل الشام أموالا كثيرة، وأهانهم إهانة بالغة، ومسك الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب الشام وولى عوضه مملوكه غرلو العادلي، وأخذ أموال نائب الشام، وختم على سائر حواصله فلم يطب ذلك على خواطر الأمراء.