قال: وفيها توقف حال الوزير فظلم الناس كثيرا، ولذلك شرعت حاشية السلطان ومماليكه في أخذ الأموال والبراطيل، فحصل للناس بسبب ذلك ضرر عظيم، ومع ذلك كانوا يسيئون الأدب على الأمراء والأجناد، وضاقت الأحوال على الناس من وجوه كثيرة، ومع هذا توقفت حال الفلوس إلى أن استقرت بالميزان، وهذا أول من وزنت الفلوس في دولته، كل رطل بدرهمين.

وقال بيبرس في تاريخه: وفيها وهي في سنة خمس وتسعين وستمائة ورد إلى البلاد الشامية طائفة كثيرة من التتار الأويراتية صحبة طرغاى، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في السنة الماضية على ما ذكره ابن كثير ولكنه ما ذكره مستوفى.

قال بيبرس: وكان سبب هربهم من بلادهم أن طرغاى كان متفقا مع بيدو بن طرغاى على قتل كيخاتو، فلما وصل الملك إلى قازان بن أرغون خاف طرغاى على نفسه لئلا يأخذه بقتل عمه، فيجعل ذلك الذنب وسيلة إلى سفك دمه، وكان مقيما بتمانه بين بغداد والموصل، وكان ابن بغا مقيما بتمانه بديار بكر، فأرسل قازان بولاى ومعه تمان إلى ديار بكر عوضا عن أسنبغا، وأوصاه بأن يحفظ الطرقات على طرغاى وجماعته، وإذا وصل من يندبه لقتله يكون مساعدا له، وجهز قازان أيضا أميرا يسمى قطغو في ثمانين فارسا ليقبضوا على طرغاى ومن معه من قبيلة أويرات، فأحس بما دبر عليه قازان، وعلم أن قطغو إنما جرد إليه للقبض عليه، فاتفق هو والأمراء الذين معه وهم ألوص وككتاى فقتلوا قطغو ومن معه، وعبروا الفرات وحضروا إلى الشام، وبلغ بولاى أنهم ساروا نحو الفرات فسار في آثارهم، فالتقوا وتصافوا معه فكسروه، وقتلوا أكثر التمان الذين معه، وطرغاى هذا كان متزوجا ببنت منكوتمر بن هلاون.

فلما وردت مطالعات نواب الشام إلى الأبواب السلطانية بوصول هؤلاء الأويراتية أرسل زين الدين كتبغا إليهم الأمير علم الدين سنجر الدويداري من دمشق لينزلهم في بلاد الساحل، ويحضر مقدميهم وكبارهم إلى الباب العزيز، فأنزل نسوانهم وأولادهم وعامتهم في بل الساحل، وأحضر من أعيانهم نحو مائتى فارس صحبة طرغاى وككتاى والوص مقدميهم، فلما وصلوا تلقاهم زين الدين كتبغا بالإكرام، وعاملهم بالإنعام، وألم بهم غاية الإلمام، وعجل لهم الخلع والهبات، وأعطى أكابرهم الطبلخانات وصاروا يجلسون بالقلة في مراتب الأمراء ومقاعد الكبراء.

وكان الصواب أن يدرجوا قبل أن يقدموا ويهمل عليهم حتى يسلموا، فإذا دخلوا في الدين وأقاموا شعائر المسلمين، وعرف منهم ذلك باليقين، يرفع منهم من يستحق الرفعة، وينقلون إلى الأخباز والإمرة.

فلما رأى أمراء الإسلام ما فعله مع هؤلاء على غير القياس، وأنه قدمهم على أكابر الناس كرهوا منه هذه الفعلة، مع ما في النفوس من تغلبه على السلطنة وخلعه وارث المملكة، فتغيرت له الخواطر، وتكدرت منه الضمائر، وتوثبت مماليكه على الإقطاعات والحمايات، وامتدت أيديهم إلى الرشى والجبايات، وتكبروا على الكبراء، وتقدموا على قدماء الأمراء، وغلبوه على رأيه، وحجبوه بحجاب وجعلوه من ورائه، ولم يتنبه لردعهم ولا تيقظ لمنعهم، فتمكنت البغضاء وتزيدت الشحناء، وهو لا يعلم بما تم، ولا ينظر فيه نظر من بحسمه يهتم، وصار الأمراء يعتقدونه راضيا بهذه الأمور، فامتلأت بالإحنة صدور الصدور، وكان كما قيل:

وإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

وفي نزهة الناظر: ومما قاله شمس الدين ابن دانيال في ذلك:

ربنا اكشف عنا العذاب فإنا ... قد هلكنا في الدولة المغلية

جاءنا المغل والغلا فانسلقنا ... وانطبخنا في الدولة المغلية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015