وكتب إلى نائب الشام أن يبعث الأمير سيف الدين كرجى ليمسك الأمير عز الدين أيبك خزندار، نائب طرابلس، وذلك لتوقفه عن اليمين للسلطان كتبغا حين جاءه خبر عزل الناصر وتولية كتبغا ولم يوافق على ذلك حتى حكمت عليه الأمراء، وقالوا: إن كتبغا خشداشك وما هو غريب حتى وافقهم على ذلك الأمر حينئذ، وكان قد بلغ ذلك إلى كتبغا من المقلد له بالنيابة، فبقى في نفسه من ذلك ما حتى مسكه، فلما مسك قيد وحمل إلى مصر، وحبس بها، وتولى عوضه الأمير عز الدين الموصلي.

وقال ابن كثير: وكان عمر العادل يوم توليته نحو خمسين سنة، فإنه من سبى وقعة حمص الأولى التي كانت في أيام الملك الظاهر بعد وقعة عين جالوت، وكان من الغويراتية، وهم طائفة من التتر.

وفي يوم الأربعاء مستهل ربيع الأول: ركب الملك العادل كتبغا في أبهة الملك، وشق القاهرة، ودعى له الناس.

ومن غريب الاتفاق أن العادل كان قد قبض على عز الدين الموصلي واعتقله ببرج الساقية، وأقام ثلاثة وتسعين يوما وأخرجه إلى طرابلس، وقبض على عز الدين أيبك الخازندار من طرابلس واعتقله ببرج الساقية، فأقام ثلاثة وتسعين يوما نظير المدة التي كانت لأيبك الموصلي، وهذا أيبك وذاك أيبك والولاية واحدة ومدة السجن واحدة.

وفيها: عزل العادل الحموي عن نيابة دمشق، واستناب مملوكه سيف الدين غرلو.

وفيها: قصر النيل بالديار المصرية تقصيرا قلق له الناس، وحصل منه اليأس، فكان النوروز ولم يحصل وفاء ولا تغليق، فاقتضى الحال كسر الخليج بغير تخليق، وبدل العالم بالأتراح عوضا عن الأفراح والانزعاج بدلا من الابتهاج، فابتدأ الغلاء، في الغلال، والفناء في النساء والرجال، وأجدب الوجه الغربي من برقة وأعمالها وما يتاخمها فلم يصبها شيء من الوبل ولا من الطل، ولم يزرع بها ما جل ولا ما قل، فهلك أهلها جوعا وعدما وعطشا من ماء السماء، ثم أعقب حدوث الوباء عقبى السنة الشهباء فساقهم القحط والضر إلى انتجاع ديار مصر، فورد منهم إلى الإسكندرية والبحيرة أمم تتجاوز الإحصاء، وانبثوا في البلاد، وامتدوا في الربى والوهاد، وجلبوا الوخم إلى العباد ففشت الأمراض العامة، ومنى الخلق بالطامة، وبلغ سعر القمح بالقاهرة ومصر مائة وخمسين درهما نقرة الأردب، والشعير مائة درهم، والفول والحبوب نحو ذلك، واشتد الأمر، وأكل الناس الميتة جهارا، ولحوم الكلاب والقطط والحمير نهارا. وقيل: إن بعضهم أكل لحم بعض، وأن امرأة أكلت ولدها.

وعم الفناء والموتان، وكثر بسائر البلدان حتى أن بعض البلاد التي كانت مشحنة بالرجال والنسوان خلت من ساكنيها، ولم يبق إلا النزر اليسير فيها.

وأما القاهرة ومصر فإنه كان يموت فيهما كل يوم ألوف، ويبقى الميت مطروحا في الأزقة والشوارع ملقى على الممرات والقوارع اليوم واليومين لا يوجد من يدفنه، لاشتغال الأحياء بأمواتهم، والسقماء بأمراضهم، هذا وأكثر من يموت يلقون في حفائر الكيمان بغير غسل ولا أكفان، فتأكلهم الكلاب، ثم أكل الناس الكلاب، ففنيت، وفنى أكثر الدواب، ورسم السلطان بتوزيع الصعاليك والفقراء على الجند والأمراء، فوزعوا بالقاهرة ومصر ليقوموا بهم من أموالهم.

هذا كله ذكره بيبرس في تاريخه فقال: وكنت إذ ذاك في الإسكندرية. والصعاليك الذين فيها والواردين إليها وزعوا على الأملياء، والفقراء على الأغنياء، وكنت متوليا أمر توزيعهم على التجار وأرباب المعايش والأيسار، ووظفت على نفسي منهم جماعة، وأجريت عليهم جاريا قام بأودهم إلى أن انقضت المجاعة، وتواصلت الغلال إلى الإسكندرية وتواترت من جزيرة صقلية والقسطنطينية وبلد الفرنجية، حتى أن الواصل إليها شف على ثلاثمائة ألف أردب قمحا، فتماسك أهل الثغر، ووجدوا رفقا بهذا الأمر، وانتهى سعر القمح إلى ثلاثمائة وعشرين درهما ورقا الأردب.

وقال ابن كثير في تاريخه: مات في ذي الحجة بديار مصر نحو من عشرين ألفا.

وفي نزهة الناظر: وفيها وصل من بلاد برقة جماعة كثيرة، وقد أثر الجوع فيهم، وشكوا من القحط في البلاد، وأنه لا ينزل لهم غيث في تلك السنة، ولا أعشبت أراضيهم، ونشفت الأعين، ولم يجدوا ببلادهم القوت، وهم نحو ثلاثين ألف نفر، وأفنى الجوع والعطش جميع ما كانوا يملكونه من الأغنام والإبل والمواشي، وكذلك الأطفال والنساء، وما سلم من الرجال إلا من كان في أجله تأخير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015