فأخذه أشد أخذ، ففي تلك الساعة خرجت تلك الحماقة من رأسه من قوة الصفع بالأيدي، وانقلب ذلك الموكب الذي طلع فيه إلى القلعة إلى الذلة والهوان فخرجوا به، وبلغ ذلك إلى كتبغا وأنه تسلمه قراقوش، فعلم أن نقلته في ليلته ويروح ماله، فرسم كتبغا أن يتسلمه الأمير بدر الدين المسعودي مشد الدواوين، فأحضروه إليه، وصحبته تقي الدين الأعمى الذي كان نديم بيدرا الذي لا يكاد يفارقه ويجلس معه عند جواريه ومغانيه كما ذكرناه، وكان له فضيلة وشعر وحكايات، وحصل له جملة مال من قضاء أشغال الناس وحوائجهم عند بيدرا، ووجد له مال كثير، وفي جملته نحو من ثمان مائة خاتم ما بين ساذج وبفص، فإنه كان إذا ركب أو مشى وسلم خلفه أحد بمشعل أو غيره، فيمد يده إليه فيصافحه ويحبس يده، فأي خاتم وجده في يده أخذه، ولو كان أي خاتم كان، وفي يد أي من كان، ثم إن المشد يحضر الوزير ويعاقبه، ومسكوا أيضا جميع من كان يلوذ به من الدماشقة والمصريين وغيرهم إلى أن حصل من جهتهم أربعمائة ألف درهم بعد قتلهم بالمقارع.
وقبضوا أيضا على يعقوب المقدم وولده، وكان هذا مقدم نائب بيدرا ومقدم دولته، فأحضره المسعودي لعقوبة الوزير، وكان الشجاعي يكرهه، فبلغه عنه أنه يعاقب الناس، فسير إلى المشد وأمره بالقبض عليه وعقوبته، وكان ذلك في مدرسة الصاحب بن شكر، فاتفق حضور الرسالة ويعقوب قد ضرب الوزير ست مقارع، فقبض عليه للوقت، وطلب ولده أيضا، فحضر وأقاما في العقوبة تسعة أيام، وكانت آجالهم متقاربة.
وكانوا قد كتبوا أيضا إلى نائب دمشق بالحوطة على جميع اكام ابن سلعوس الوزير وأهله ومن يعلمون أنه من جهته، فقبض على جماعة كثيرة من الدماشقة، وحصل منهم نحو مائتى ألف درهم سوى الأملاك والعقارات، ولم يسلم من ألزامه ومن كان خصيصا به غير رجل واحد، وذلك أن الوزير لما قوى أمره سير إلى الشام فاستدعى أهله وألزامه فكلهم أجابوه إلا هذا الرجل، فلم يجبه، فكتب إليه يعتذر عن الحضور ويحذره من الشجاعي فقال:
توق يا وزير الملك واعلم ... بأنك قد وطئت على الأفاعي
وعش ما عشت في دعةٍ ... أخاف عليك من نهش الشجاعي
فبلغت الأبيات إلى الشجاعي، فكان يتذاكرها إلى هذا الوقت الذي رسم بطلب ألزامه وأهله واستثنى هذا الرجل، فكتب بالوصية له وعدم التعارض إليه، فوقع الأمر كما قال الرجل، فإنه مات من نهش الشجاعي الذي لم يجد له ترياقا.
وقال ابن كثير: وكان ابتداء أمر الوزير ابن سلعوس تاجرا، ثم ولى الحسبة بدمشق بسفارة الصاحب تقي الدين توبة، ثم كان يعامل الملك الأشرف قبل السلطنة، فلما تملك بعد أبيه استدعاه من الحج وولاه الوزارة، فكان يتعاظم على أكابر الأمراء ويسميهم بأسمائهم ولا يقوم لهم، فلما قتلوا الأشرف تسلموه بالضرب والإهانة وأخذ الأموال حتى أعدموه حياته وصبروه، وأسكنوه الثرى بعد أن كان عند نفسه قد بلغ الثريا.
قد ذكرنا أنه لما قتل الأشرف كان سنجر الشجاعي مقيما في القلعة، ولما عاد زين الدين كتبغا والأمراء المذكورون تقرر الحال على أن يكون الشجاعي محكما في الوزارة، فتحدث فيها ونفذ أمره.
فلما كان في شهر صفر من هذه السنة خرج الأمراء من بيوتهم في يوم موكب، وجلسوا على باب القلة كالعادة ينتظرون فتوح باب القلعة ليركبوا الموكب في خدمة الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، فلم يشعروا إلا وخرجت رساله على لسان أمير جاندار بطلب أقوام معينين إلى السلطان، وهم: سيف الدين قفجاق، وبدر الدين عبد الله السلحدار وسيف الدين قبلاي وركن الدين عمر أخو تمر وسيف الدين كرجي، وسيف الدين طرقجى، فدخلوا، وقام الأمراء للركوب.
ولم يعلم الأمير زين الدين بما تم لهم، فبينما هم يسيرون تحت القلعة إذ جاء اثنان من ألزام علم الدين الشجاعي، وهما: سيف الدين قنغر وجاورشى ولده، وكانا في خدمته منذ كان نائب السلطنة بدمشق، فأخبر الأمير كتبغا أن الأمراء الذين استدعوا إلى داخل سحرا قد اعتقلوا، وأن الشجاعي قد دبر الحيلة عليك وعلى الأمراء إذا طلعتم إلى القلعة ودخلتم إلى الخوان أن يقبض عليكم أيضا، كما فعل بالذين قبض عليهم سحرا.