فلما وقف حمد الله تعالى في نفسه، ولم يظهر ذلك لأحد، ونهض من دار الولاية ووسطه مشدود بمنديل إلى أن وصل إلى باب الوزير، فوجد المقدم ينتظره، وقال يا أمير: ما لك؟ كملت حملك؟ قال له: بقى ثمان مائة دينار ولكن لي شغل عند مولانا الوزير، فاستأذن علي، فأرسل خادما من الخدام، فشاور عليه، فخرجت الرسالة للمقدم: متى لم يكمل الليلة ألف دينار، عره واضربه بالمقارع، فقال المقدم: يا أمير سمعت الجواب. فقال: مرسوم الصاحب على الرأس، فاليوم يكمل إن شاء الله، ولكن عرفه أن ثمة شغلا ضروريا؛ فلا بد من الاجتماع به والمشاورة عليه، فدخل الخادم فعرفه بذلك، فأذن له، فدخل فوجده جالسا بعجب وعظمة والموكبية تعد قدامه. فقال: كملت الحمل؟ . فقال: نعم يا مولانا. فقال: ما تريد وأي شيء تشاور؟ فقدم له البطاقة من جيبه وناولها إياه، فقرأ أولها وبهت فيها إلى أن استكملها، ثم رفع رأسه فقال: يا بدر الدين: ما بقى إلا مروءتك وفتونك في هذا الوقت.

فقال له: ما عندي شيء يشوش عليك ولكن متى قعدت الليلة ويصبح أهل البلد ويطلعون على الأمر، ما يخلون يصل على الأرض من دمك قطرة.

فنهض على الفور صحبته إلى أن أخرجه في الليل من باب الإسكندرية، وأشاع أن السلطان سير بطلبه، فخرج معه شخص من الدماشقة وكان يصحبه، فأخفى نفسه إلى أن وصل إلى زاوية الشيخ ابن عبد الظاهر خارج باب البحر، فقال له يا مولانا الصاحب: أنا أشير عليك بأن تخفى نفسك من ها هنا أياما إلى أن تنظر بعد ذلك ما يتفق للناس، ثم تتحيل لخلاص نفسك، فالتفت إليه كالمغضب وقال: ما تستحي؟ تشير على برأي العموم، إش هذا الرأي الفاسد؟ والله لو فعل هذا بعض العمال الذي تحت يدنا لقبحنا ذلك منه، فكيف يليق بي أن أفعل ذلك، فكأنك تعتقد أنهم ما هم محتاجون إلى تدبيرنا لدولتهم، وما لهم غنى عنا، فسكت الرجل وتمثل بقول الشاعر:

لكل داء دواءٌ يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها

ثم إن الوزير وصل إلى القاهرة ودخلها بالليل، فنزل بداره بحارة زويلة، فبلغ الشجاعي حضوره، فعرفه لزين الدين كتبغا، فرسم بطلبه، فطلب الشجاعي الحاجب فقال له: انزل إلى الوزير وقل له: يا مولانا الصاحب إن الأمراء يسلمون عليك ويسألونك أن تركب إليهم، فإن الدولة محتاجة إلى تدبيرك، فنزل الحاجب إلى داره، واستأذن فأذن له، فدخل عليه وسلم بأدب، وعرفه بما قالوا له، فأعجبته نفسه، وقال: بسم الله اجلس حتى تحضر الجماعة، فسير إلى الكتاب والمباشرين، فعرفهم أنه طلب للوزارة، فركب إليه الناس وسائر الدواوين والمشدين، فاجتمع خلق كثير، وحضرت القضاة أيضا.

فركب في موكب عظيم كما كان بعهده إلى أن وصل إلى القلعة، فدخل على الشجاعي فنهض إليه، وقال: كيف حال مولانا الصاحب؟ فقال: بخير.

فقال السلطان: ولدك رسم أن تستقر على وزارتك وتدبير الدولة. فقال: حتى تجتمع بالسلطان ونذكر له شروطا نقررها بين يديه. فقال له: بسم الله والسلطان أيضا له شروط، أولها: أنه يطلب منك أن تنفق على العسكر لأنه سلطان جديد، فإذا كملت النفقة تجتمع به، ثم التفت إلى قراقوش الظاهري - الذي ذكرنا قضيته وما جرى عليه معه من المصادرة - وقول قراقوش له: ويلك هل أنت إلا المقوقز الذي أخربت مصر وقتله الوزير بعد ذلك بالمقارع. فقال له: يا أمير بهاء الدين، تسلم غريمك وخلص منه مال السلطان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015