وركب في ذلك اليوم كتبغا والأمراء إلى جانبه يشاهدون هؤلاء، وهم على هذه الحالة مسمرون، وعليهم أقبيتهم الأطلس وكلوتاتهم الزركش وأخفافهم البرغالى وشقوا بهم في وسط الموكب، وصاروا طالعين بهم وراجعين والمشاعلية تنادى عليهم: هذا جزاء من يخون أستاذه ويتجاسر على قتل الملوك وأقل جزائه، ورسموا أن يطاف بهم مصر والقاهرة.
ونظرت الناس إلى تلك الشمائل الحسنة، والوجوه الجميلة، ويد كل واحد على صدره تشجب دما، وتباكت الناس، وانفجعت القلوب، وكان يوما عظيما.
واتفق في يوم دخولهم المدينة سألت زوجة الأمير نغيه بعض خدامها أن تقف في مكان تنظر منه إلى زوجها قبل الموت، فطلع بها على بيت في الشرابشيين فحين وقع نظرها على زوجها مسمرا أرمت نفسها من باب الطاق لتقع عليه، فلطف الله بعثرتها أن وقعت على سقف الدكاكين، وتباكت الخلائق لأجلها، وتألموا كثيرا، وحملوها إلى منزلها.
وبلغ خبرها إلى الأمير بدر الدين أمير سلاح، فتوجع لها، وركب إلى القلعة، واجتمع بكتبغا النائب والأمراء وشفع في نزولهم من الجمال ويموتون في بيوتهم، فقبلوا سؤاله، ورسموا للوالي بتنزيلهم وتسليمهم لأهلهم، وكان ذلك وقت الظهر، فحمل كل منهم إلى أهله، وما لحقوا أن يقعدوا ساعة حتى بلغ المماليك الأشرفية أمرهم، فاجتمعوا عند الشجاعي في محفل كبير، وقالوا: متى ما لم يعد هؤلاء إلى التسمير مثل ما كانوا ما نسكت، وقصدوا إقامة الفتنة، ورأى كتبغا هذه الحالة فبرأ نفسه، فقال: دونكم وإياهم، فأنا ما أدخل بينهم فعند ذلك ركبوا ونزلوا، فأخذوا كل واحد من منزله، وأعادوهم إلى الأخشاب والتسمير، وشقوا بهم المدينة.
فكانت تلك الإعادة أمر عليهم وأصعب مما وجدوه في أول الشدة، وبقيت معهم طائفة من الأشرفية إلى أن وصلوا بهم إلى ظاهر القاهرة وإلى ظاهر مصر، فاستمروا على هذه الحالة يومين آخرين، ثم توفوا إلى رحمة الله.
وكانت عدتهم سبع أمراء وهم: طرنطاى الساقي، وعناق السلحدار، ونغيه السلحدار، وأروس السلحدار، وطنبغا الجمدار، وآقسنقر الحسامي، ومحمد خواجا.
وبعد هؤلاء قبضوا على الأمير قجقار الساقي؛ وكان قد هرب من يوم الوقعة واختفى، وشنقوه في سوق الخيل.
فالكل عشرة أنفس مع بهادر رأس نوبة والموصلي، فنعوذ بالله من ذلة القدم، وزوال النعم، وحلول النقم.
هو الوزير الكبير شمس الدين محمد بن عثمان بن أبي الرجا التنوخي، المعروف بابن سلعوس، وزير الملك الأشرف، كان هو من جملة الأسباب المؤدية إلى وقوع هذه الفتن، لأنه كان بينه وبين الأمير بيدرا في الباطن إحن وعداوة - على ما ذكرنا - حتى أدى ذلك إلى ما حصل من بيدرا من ركوبه على الملك الأشرف وقتله إياه.
ولما جرى ما ذكرناه على الأمراء الذين ذكرناهم مسك الشجاعي الوزير المذكور، وضربوه وعاقبوه، فمات تحت الضرب الذي جاوز ألف مقرعة، وذلك في عاشر صفر من هذه السنة، ودفن بالقرافة.
وقيل: إنه نقل إلى الشام بعد ذلك، واستصفوا أمواله وذخائره.
وفي تاريخ ابن كثير: وكان الذي حمل من جهته خمسمائة ألف درهم.
وفي نزهة الناظر: وكان الوزير في الإسكندرية يوم قتل السلطان، وكان قد طلب سائر التجار وأرباب الأموال والمكارم وشرع في مصادرتهم وإهانتهم فكثر الظلم والعسف عليهم بسبب هذا، وطلب والي الإسكندرية بدر الدين الجاكي، وكان رجلا ذا دين ومروءة، فرسم عليه وأخذ سيفه وأمر بأن يؤخذ منه مبلغ ألفى دينار، وبقيت الإسكندرية في بكاء وعزاء.
وفي ذلك اليوم بعد العصر وقعت بطاقة، فأحضرها البراج للمتولى فأخذها وقرأها، فوجدها من تروجة وقد كتبت عن بيدرا: سرح الطائر الميمون يوم السبت وقت العصر الثاني عشر من المحرم يأمر بالقبض على الوزير، وأن السلطان قتل، وتسلطن بيدرا.