وقال بيبرس في تاريخه: وكنا إذ ذلك الوقت قد وصلنا من تجريد حمص صحبة الأمير بدر الدين أمير سلاح، فأنعم السلطان على بمائة فارس وتقدمة ألف، وسلم إلى ديوان الإنشاء والنظر عليه، والحديث فيما يصدر منه ويرد إليه، وأنفق السلطان في العساكر، واستحلفوا له فحلفوا، وطلب الأمراء الذين طابقوا بيدرا، فوقع منهم أولا بهادر رأس النوبة، وأقوش الموصلي الحاجب، فضربت رقابهما وأحرقت جثتهما، ثم وقع بعدهما طرنطاى الساقي، وأعناق السلحدار، ونوغيه السلحدار وأروس السلحدار، ومحمد خواجا، والطنبغا الجمدار، وآقسنقر الحسامي، فاعتقلوا بخزانة البنود أياما، وكان ركن الدين الجاشنكير يتوجه إليهم ويتولى عقابهم وتقريرهم، فلما أقروا بما فعلوا، واعترفوا بأنهم قتلوا، قطعت أيديهم وصلبوا، وطيف بهم على الجمال، وأيديهم التي قطعت في أعناقهم قد علقت، وماتوا شر ميتة جزاء بما كسبوا، ووقع بعدهم قجقر الساقي، فشنق في سوق الخيل.
وفي نزهة الناظر: أن السبب لقتل هؤلاء واستعجال الأمراء في قتلهم أن زوجة السلطان جمعت نوائح كثيرة تنوح على السلطان، فأراد الأمراء منع ذلك، فأبت ودخلت على أم السلطان الناصر فمكنتها من ذلك، فجمعتها وحضرت مع سائر الخدام والجوار ليلة الجمعة إلى تربة السلطان، وحضر في تلك الليلة سائر الفقهاء والقراء والوعاظ، فقرأوا ختمات عديدة، ولما فرغوا قامت الوعاظ، فتكلم كل واحد بما يناسب ذكره في ذلك الوقت، وتمثل ابن العنبري بقول الشاعر:
هدمت صروف الدهر أرفع حائط ... ضربت دعائمه على الإسلام
تلك الرزية لا رزية مثلهاوالقسم ليس كسائر الأقسام ثم نعاه وبكى وتباكت الأمراء والفقهاء، وذكر كيف وجد طريحا ملقى، ثم قال:
أبا الفضل لم أعجب لموتك إنه ... هو البين لا يبقى عليك مدى الدهر
فواعجبا للأرض كيف ملكتها ... وبت ولم يسترك من دونها بشبر
وحين فرغ هذا الوقت وثبت مائة جارية وثلاثون خادما ومماليك صغار، ومعهم شمع وستون فانوسا بستين شمعة، والجميع لابسات الجلال، محلولات الشعر، وفي أعناق الكل غبى محرقة، ومعهن جوق من النوائح المختلفة الأصوات، وكل واحدة منهن تنوح بقول مختلف من كلام النساء، فمن ذلك:
جددوا همي وأحزاني ... يا فرحة الأعداء بسلطان
يا ضارب السيف شلت يداك ... قد بلغت يمناك منه مناك
لا ماتني ربي حتى أراك ... قد سمروا عينيك هذا جزاك
وأشياء كثيرة من هذا القبيل.
فأقمن ست ليال، كل ليلة من العشاء إلى السحر إلى أن أقلقت الناس، وأبكت العيون، وأوجعت القلوب، والتزمت زوجة الأشرف أن لا تنفك من حزنها ولا تترك ما هي فيه من هذا الأمر حتى ترى قاتل الأشرف والموافق عليه مسمرا مشهورا، فعند ذلك ثارت المماليك الأشرفية واجتمعوا بالشجاعي، وبكوا بين يديه، وقالوا: نحن نموت كلنا وإلا مكنونا من قاتل أستاذنا، وكانوا قد قبضوا على جماعة من الخاصكية الذين اتفقوا مع بيدرا ورسموا بحبسهم، وكانوا أخروا أمرهم إلى أن يتفقوا على أمر يفعل فيهم.
فنهض الشجاعي ومعه جماعة من المماليك الأشرفية، فدخلوا على كتبغا لينظر في أمر هؤلاء، فرأوه جالسا في الشباك والأمراء حوله، فقاموا له وشرعوا في الحديث؛ وهم في ذلك فإذا بالأميرين بهادر رأس نوبة والأمير جمال الدين أقوش الموصلي الحاجب قد حضرا، وكانا من جملة الأمراء المتفقين مع بيدرا، فحين وقع نظر المماليك الأشرفية عليهما سلوا سيوفهم وضربوا رقبة الاثنين في أسرع من لمح البصر، ولما رأى كتبغا والأمراء ذلك خشوا من الفتنة، واتفقوا على قتل الأمراء الذين في السجن وإشهارهم إطفاء لنيران الفتنة.
فطلبوا متولى القاهرة فأحضرهم من السجن، ونزل الشجاعي والمماليك الأشرفية صحبته إلى باب السلسلة، وأوقفوهم عند باب السلسلة، وأحضروا قرمة وساطورا، وجعل الوالي يحضر أميرا بعد أمير ويقطع يده على القرمة بضربة واحدة يفصلها من المعصم، فلما فرغوا من ذلك أركبوهم على الجمال وسمروهم تسمير الهلاك، وعلقوا يد كل واحد في عنقه.