وأما السلطان غياث الدين فلم يبرح من مكانه وقيد فرسه، ووقف على أعلى الجبل ظناً منه أن عساكره التى تقدمت قد نزلت ونازلت، ولم يدّر بما أصابهم من الافتراق، وأن كل طائفة منهم صارت إلى أفق من الآفاق، فأتاه الخبر بذلك وهو في قلة ممن حوله، وكان معه جماعة من الأمراء كان قد نقم عليهم أمراً، فأمسكهم وأودعهم الزردخاناة، فأطلقهم وسلم الحريم إلى أحدهم، وكان اسمه تركزى الجاشنكير وهو والد الأمير مبارز الدين سوارى الرومى أمير شكار الذى هاجر إلى الديار المصرية في الأيام الظاهرية على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وأمره أن يتوجه بهم إلى قونية التى هي دار ملكه، وموطن أهله ومسافتها من الذى كان فيه ثلاثون يوماً، فسار بهن وقد تركوا القماش والفرش والأثاث، ولم يحملوا إلا الجواهر النفيسة التي يخف حملها ويسهل نقلها، ورحل السلطان عائداً، وترك الوطاق بما حوى من الدهاليز المضروبة والخيام المنصوبة والأثقال التى لها ولعساكره، والخزائن المشتملة على ذخائرهم وذخائره.

ولما عاين التتار هزيمة ذلك العسكر الجرار ظنوها مكيدة، ولم يحسبوها هزيمة، فلبثوا ثلاثة أيام لا يتجاسورن على العبور إلى الخيم، ثم تحققوا أمرهم وعبروه، وحَوَوْا كل ما وجدوه من الخيول والأثاث والأثقال، واستعرضوا كله، وعادوا راجعين.

ذكر بقية الحوادث

منها: أن الملك الناصر داود لما عاد إلى بغداد بعد استشفاعه بالنبى - صلى الله عليه وسلم - في ردّ وديعته أرسل الخليفة المستعصم بالله من حاسب الناصر المذكور على ما وصله في ترداده إلى بغداد من المضيف مثل اللحم والخبز والحطب وغير ذلك، وثُمِنّ ذلك عليه بأغلى الثمن، ثم أرسل إليه شيئاً نزراً، وألزمه بأن يكتب خطه بقبض وديعته وأنه ما بقى يستحق على الخليفة شيئاً، فكتب خطه بذلك مكرها، وسار عن بغداد وأقام مع العرب، ثم أرسل إليه الملك الناصر يوسف صاحب الشام فطيب قلبه وحلف له، فقدم الناصر داود إلى دمشق ونزل بالصالحية.

ومنها: أن هلاون على ما ذكر دخل بغداد في زىّ تاجر عجمىّ، ومعه مائة حمل حرير، واجتمع بالوزير مؤيَّد الدين محمد بن العلقمى، وبأكابر الدولة، وكانوا قادرين على مسكهِ إلا أنهم خانوا الله ورسوله والمسلمين، ثم خرج بعدما أتقن أمره معهم.

ومنها: أنه كملت المدرسة الناصر الجوانية داخل باب الفراديس بدمشق، وحضر فيها المدرّس قاضى البلد صدر الدين بن سنىّ الدولة، وحضر عنده الأمراء والعلماء وجمهور أهل الحلّ والعقد، وحضر السلطان الملك الناصر يوسف واقفها أيضاً.

ومنها: أن السلطان الملك الناصر يوسف أمر بعمارة الرباط بسفح جبل قاسيون.

ومنها: أن عسكر الملك الناصر يوسف رحلوا من العوجاءِ إلى عُزَّة ونزلوا على تل العجول، واتفق وصول رسول الخليفة وهو الشيخ نجم الدين البادرائى من بغداد ليجدد الصلح الذى وهَتْ مبانيه، وقرر الصلح، فأعاد العسكر.

ومنها: أنه كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول فيه أبو شامة في كتاب الذيل وملخصه أنه قال: جاءَ إلى دمشق كتب من المدينة النبويَّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السَّنة، وكتبت الكتب في خامس رجب والنار بحالها.

قال: ووصلت الكتب الينا في عاشر شعبان وفيه تصديق لما فى الصحيحين من حيدث أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضىء أعناق الإبل ببصرى (.

قال: فأخبرنى بعضُ من أثق به ممن شاهدها بالمدينة أنه بلغه أنه كُتب بتيماء على ضوئها الكتب.

قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالى وكأَنَّ في دار كل رجل سراجاً، ولم يكن لها حرٌّ ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015