ثم بكى، فانهملت عيناه بالدموع، فما قام أمير منهم إلا وهو يمسح عينيه من البكاء، ويقول: والله يحق على من يشهد على مثل هذا بالنصرانية أن يضرب عنقه، فانقضى المجلس على ذلك، وكان مجلسا عظيما، وقصدت العوام أن يرجموا الشهود، فمنعتهم الحجاب، ثم دخل الأمراء إلى السلطان، فرأى في وجوههم أثر البكاء والحزن وقد تنكرت، وصار الأمير بدر الدين يتحدث معه ودموعه تجري، وقال يا خوند: إش يقال في بلاد الأعداء إذا سمعوا أن الشهود شهدوا أن قاضيهم الذي هو قاضي القضاة نصراني، وشرع البيسرى وبكتمر السلحدار وغيرهما من أكابر الأمراء فتحدثوا مع السلطان، فقال السلطان: أما في ذمتي ذنب، ورسم بالإفراج عنه، وأن لا يعارضه أحد، فخرج الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار بنفسه ومشى مع القاضي إلى باب القلعة.

وقال صاحب التاريخ: كنت في ذلك اليوم مع والدي أشاهد ما وقع، ولم أر مثل ذلك اليوم من اجتماع الناس حتى لا يمكن أن يرى أحد القاضي بينهم.

وأصبح الأمير بيدرا يدخل إليه، فطلبه وطيب خاطره وخلع عليه وقال: لأجلك أطلقت القاضي وما سمعت فيه قول أحد، فقبل الأرض ودعى للسلطان، وفي قلبه من تلك الكلمة أمور.

قال صاحب التاريخ: أخبرني الشيخ زين الدين ابن الكناني الشافعي في سنة أربع وسبعمائة، وقد أجريت عنده ما جرى على القاضي تقي الدين. فقال: أصيب بدعوة دعيت عليه، وهو أن القاضي تقي الدين كانت له وظائف شتى.

من جملتها نظر الخانقاة الصلاحية، وكان شيخها في ذلك الوقت الشيخ شمس الدين الأيكي، وكان القاضي يحضر الوظيفة، واتفق في بعض الأيام بحث بينهما في نظم الشيخ شرف الدين بن الفارض، وكان قد بلغ القاضي عن الشيخ أنه يعتقد الحلول، فقال له: بلغني أنك رجل حلولي على مذهب ابن الفارض، وأنك كل وقت تنشد قصيدته التي فيها ذكر الحلول، وهذا مذهب نحس، فصعب على الشيخ كلامه، وأخذ يجاوب القاضي بالفظاظة فقال له القاضي: الآن ظهر صدق ما قيل فيك، وسفه عليه، وقام من غيظه عليه، فضربه بيده فأخرق عمامته في حلقه، فنظر إليه الشيخ، وأجرى دمعه، وقال: نكلت بي، نكل الله بك، فأجيبت دعوته، وجرى عليه ما جرى، ولما أفرج الله عنه جاء إلى الشيخ واستغفر الله تعالى، وأشار الشيخ إلى خادم من خدام أم الملك السعيد، وكان حسن الصوت، فقام وأنشد قصيدة ابن الفارض إلى أن أتى إلى قوله:

وبي من أتم الرؤيتين إشارة ... تنزه عن رؤيا الحلول عقيدتي

فبكى القاضي عند ذلك بكاء كثيرا، فقال: والله لقد قرأت هذه القصيدة مرارا عديدة ولم أقع على هذا البيت، ونحن نستعيذ الله من ذلك الذنب.

وفيها: عزل القاضي عماد الدين بن الأثير كاتب الإنشاء، وكان السبب لعزله أن السلطان قال له: اكتب إلى نائب الكرك بإتلاف بعض الأمراء، فكان جوابه له: يا خوند عاهدت الله أني لا أكتب بخطي في إتلاف مسلم، فنظر إليه نظر المغضب فقال: ويلك، أقول له اكتب فما تكتب، فأخذ الدواة فضربه بها ورفصه في صدره، فنهض وهو يقول: رضيت بغضب السلطان ولا غضب الله تعالى، فطلب السلطان النائب وعرفه بذلك، وقال له: افتكر من يكون كاتب السر، وكان في ذلك الوقت نوبة الأمير لاجين في السلاح فقال: يصلح لهذا شرف الدين بن فضل الله، وأنه من بيت كبير وله دراية بالوظيفة، فعند ذلك رسم بطلبه على البريد، فلما حضر خلع عليه واستقر بالوظيفة.

وفيها: أفرج السلطان على يعقوبا أمير الأكراد الشهرزوية، وكان قد أتى إلى بلاد الشام ومعه نحو من أربعة آلاف نفس من الشهرزوية، وجرت له وقائع كثيرة، وبقى إلى أن حضر السلطان الملك المظفر قطز والتقى مع المغول في عين جالوت، وكان قد حضر المصاف وشكر فيه هو وقومه، ولما تسلطن الملك الظاهر حبسه، فبقى في السجن إلى أن أطلقه الأشرف في هذه السنة، وكان الساعي له عند السلطان الأمير برغشه، وكان قد حضر عند السلطان بتقدمة جليلة من الخيل وغيرها، فشفع فيه عند السلطان، وساعده الأمير بيدرا أيضا، وكان بينه وبين برغشه صحبة من أيام وصول يعقوبا إلى البلاد، ولما أطلقه السلطان أنعم عليه بألف دينار وكسوة وخيل، وكان رجلا طوالا وشكلا عجيبا جميلا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015