قال صاحب التاريخ: ورأيته في ذلك اليوم عند باب الإصطبل وهو يقاول الرسل على الركوب وهم يمنعونه وعليه دراعة وعمامة وعذبة صغيرة، وكان الأمراء في ذلك الوقت طالعين إلى الخدمة فرآه أمير سلاح على هذه الحالة، فضرب الرسل وأركبه، وقامت العوام على الرسل وقصدوا رجمهم وضربهم، فمنعهم بعض الناس، وصارت الأمراء ينظرون إليه وتألموا بسببه، ولما طلعوا إلى القلعة عرفوا النائب بيدرا بما رأوا مما عليه القاضي من الذلة والإهانة بين العامة والخاصة، فتألم بيدرا بسبب ذلك غاية ما يكون.
ثم أن الوزير اتفق مع الشهود المذكورين وصوروا عليه محضرا يتضمن فصولا كثيرة، منها: أنه يشرب الخمر، ومنها أنه يلوط بالصبيان، ومنها أنه يتلفظ بألفاظ يصطلح بها النصارى من الألفاظ التي يترتب على قائلها الكفر، وأنهم عاينوه وقد شد في وسطه زناداً من تحت ثيابه على صفة النصارى، وأثبتوا المحضر على هذا الوجه، ثم أخذه الوزير ودخل به إلى السلطان، فقرأوه عليه، واتفق معه على أن يحضروه إلى مجلس الحكم ويدعى عليه بذلك، فإن أنكر شهد عليه شهود المحضر، ثم يعمل بمقتضاه من القتل ونحوه.
ولما خرج الوزير من عند السلطان دخل النائب، فتلمح السلطان في وجهه الغيظ، فسأله فقال يا خوند: كيف لا يكون وفي أيامك ينزل قاضي المسلمين، وهو رجل كبير القدر، صاحب علم ودين، وسلف صالح، راجلا يمشي بين العوام، ويهان بين الرسل، وشرع بيدرا يذكر أمثال ذلك، فقال السلطان: اسكت أنت ما تعرف، هذا رجل زنديق، فشرع يذكر له المحضر وما كتب فيه من المصائب، وأن الوزير التزم أن يثبت ذلك جميعه، فلم يتمالك بيدرا من حنقه على ذلك حتى قال يا خوند: ارجع إلى الله في مثل هذا الرجل ولا تسمع فيه قول رجل عامي، فغضب السلطان من قوله، وقال له: يا مأبون تقول في حق وزيري قطعة عامى، والله لولا خدمتك على وإلا خليتك تمشي في خدمته وتحمل مداسه، فخرج بيدرا من عنده، وهو أعمى من الغيظ والحنق، فوصل إلى دار النيابة ولم يجلس للحكم، واختلى بنفسه وبكى بكاء كثيرا، فبلغ الوزير ذلك ففرح وانبسط، ولم يدر ما يكون عقيب ذلك.
وأنشد صاحب التاريخ لنفسه:
كلمة قلتها فقالت مهلا ... عن قريب تريك قولا وفعلا
سترى حمرة نار نارا ... كأن إشعالها سنانا ونصلا
فسمعت الأمراء بذلك، فأتوه سرا وصبروه، وهونوه عليه، وقالوا له: إن أستاذك حاد الخلق، فتصبر على ذلك، فكلهم تألموا له بسبب ذلك، ثم أجمعوا كلهم على الكلام مع السلطان، ولما دخلوا عليه أخذ السلطان يذكر لهم حديث القاضي، فقال له أمير سلاح، والبيسرى: يا خوند الله الله حاشى في القاضي هذه الأمور، فصار السلطان يحاجج الأمراء، فقال له أمير سلاح: يا خوند نحن ما نريد أن يكون في ذمة السلطان من ذلك شيء، فتجتمع مع نائب السلطان وسائر القضاة، وتعمل عقد مجلس لهذا الرجل وتسمع صحته، فإن ثبت عليه شيء مما ذكروه عرفنا مولانا السلطان فيرى بما فيه مقتضى الشرع ويبرأ ذمته من جهته، فأجابهم السلطان على ذلك ونهضوا كلهم واجتمعوا في موضع، وأحضروا القاضي وشهود المحضر، وكان منهم نجم الدين بن عطايا، وابن السبتي، والتكرورى الإمام، وكان هؤلاء من شهود القلعة، وأقاموا شخصا يدعى عليه بذلك، فنهض القاضي تقي الدين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ " - الآية. ثم قال: يا أمراء الإسلام يا مجاهدين في سبيل الله أنا فلان بن فلان بن فلان، وذكر سائر أجداده إلى أن قال ما في نسبى بطرس ولا جرجس ولا مجوسي ولا نصراني، وإذا قالوا إني أشرب الخمر ربما يكون فيه لذة على زعم من يستعمله، أو أنى ألوط ربما يكون من عليه شهوة النفس، ولكن النصرانية وشد الزنار من أين وإلى أين وما فيه من اللذة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتمثل:
جلوا صارما وتلوا باطلا ... وقالوا: صدقنا، فقلنا: نعم