كان خروجه من دمشق في عاشر شوال يوم الاثنين، ودخل مصر يوم الأربعاء الثاني من ذي القعدة؛ ودخلها في أبهة عظيمة، وأحضر صحبته قراسنقر المنصوري وجعله مقدما على المماليك السلطانية.
قال ابن كثير: ولما استقر السلطان في القلعة قبض على الأمير سنقر الأشقر وعجل بإعدامه، وأذاقه كأس حمامه، وقبض على الأمير سيف الدين جرمك الناصري وأعدمه، هو وطقصو خشداشه، وكانت وفاة هؤلاء الثلاثة في وقت معا، وقصد إعدام حسام الدين لاجين فسلم الله نفسه لأمر كان في طي الغيب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وكان هذا في أواخر ذي القعدة.
وكان السلطان استحضر سنقر الأشقر وطقصو فعاقبهما فاعترفا بأنهما أرادا قتله، فسألهما عن لاجين فقالا: لم يكن معنا ولا علم له بهذا، فخنقهما وأطلقه بعد ما كان الوتر في حلقه وكانت له مدة لا بد منها وقد ملك بعد ذلك كما سنذكره.
وذكر في نزهة الناظر: أن مسك سنقر الأشقر ومن معه كان والسلطان في دمشق، وأن السبب في مسكه ما صدر منه والسلطان وعسكره محاصرون قلعة الروم، وهو أن السلطان لما استشار الأمراء هناك في الرجوع عن قلعة الروم حين بلغه وصول التتار كان آخر كلام سنقر الأشقر هذا للأمير بيدرا: الحرب، هو لعب الصغار، فأثرت هذه الكلمة في نفس السلطان أثرا كبيرا، وصار إذا جلس مع بيدرا والخاصكية يقول لبيدرا: سمعت قول سنقر الأشقر الحرب هو لعب الصغار، ما كان هذا القول لك، بل كان لي، يقول لك ويسمعني، ولما دخل دمشق وأرسل بيدرا إلى جبال كسروان كما ذكرنا وجرى ما جرى، ثم عادوا إلى دمشق، شرع السلطان يباكت الأمراء ويقبح عليهم فعلهم، والتفت إلى بيبرس الجالق وقال: ما أسمع يقولون إلا البحرية فعلوا كذا وصنعوا كذا وفشارات كثيرة وما رأينا منهم شيئا. فقال الجالق: بالله يا خوند خل عنك ذكر البحرية وقد بقينا كلنا على آخر نفس، وما بقى لنا غير الراحة والقعود في بيوتنا وينتفع الشبان بأخبارنا، فالتفت إليه السلطان وهو مغضب وقال: إذا أخذت خبزك وأعطيته لغيرك من يمنعني أو أخاف من أحد، وإنما أنتم ما تتركون فشاركم، كلما يتكلم أحد تقولون: لو كانت البحرية؛ وكان يتكلم بذلك ويشير إلى سنقر الأشقر.
فأخذ سنقر الأشقر من كلامه في قلبه أمرا عظيما، فأجابه على الفور، فقال يا خوند: كم تذكر البحرية، ما رأى السلطان البحرية إلا إذا ركب واحد منهم فرسه ما يقدر على ركوبه إلا بمعونة خمسة أنفس وكذا إذا نزل، وكان أحدهم إذا أخذ في يده رمحا ما كان أحد يقدر على مقابلته، فاليوم إذا أخذ بيده سوطا ترعد يده وإن رفعه ما يقدر على أن يضرب به فرسه.
وكان أمير سلاح حاضرا في المجلس، فرأى أن وجه السلطان قد تغير لونه من كلام سنقر الأشقر، وأسرع في قوله: يا خوند والله لا البحرية ولا غيرهم، فكل عسكر مصر والشام اليوم يدعون بحياتك وطول عمرك حتى تعيش لهم طويلا فيعيشون في ظلك وخيرك، فسكن ما بالسلطان عند ذلك.
ولما تفرقوا من عند السلطان وجاء كل أحد منزله قال شهاب الدين صمغار ولد سنقر الأشقر له: يا خوند أنت تعرف أن هذا السلطان شاب حاد النفس مدل بسلطنته، فلأي شيء تجاوبه كل وقت، وما كان يضرك لو سكت عن الجواب عما سمعت، فقال بعد أن نظر إليه طويلا: ما قلت له هذا القول إلا لعلمي بما في نفسه مني ومن غيري من يوم كنا نازلين على قلعة الروم واستشار الأمراء في الرجوع لأجل المغولي، وكل وقت يحدث هذا الحديث بين مماليكه ويسبني، فالموت خير من مثل هذه الحياة النجسة، ثم بكى بكاء شديدا.
وكان وقوع المجلس المذكور في السابع والعشرين من رمضان، ولما دخلت عليه الأمراء ليلة العيد للتهنئة وتقبيل يده، ثم خرجوا، أرسل الشجاعي والحجاب خلفهم، فرجعوا، وأمر عند ذلك بالقبض على سنقر الأشقر وطقصو وطلب لاجين فلم يدركوه، وكان قد سبقهم بالخروج، وقد ذكرنا ما جرى عليه وكيف كان مسكه بعد ذلك، ووقع حياط عظيم يوم العيد، فلم يتهن أحد بالعيد.
ومن غريب الأمر أن بعض الخاصكية اعتنى بموفق الدين خطيب حماة وولاه السلطان خطيب دمشق مكان الشيخ عز الدين، واتفق وقوع هذا الحياط، وللموفق صلاة العيد وخطبته، فنظم فيه بعض الدماشقة:
خطب الموفق إذ تولى خطبة ... شق العصى بين الملوك وفرقا
وأظنه إن قال ثانيةً غدا ... دين الأنام وشملهم متمزقا