والمجلس السامي يأخذ حظه من هذه البشرى التي بشرت بها ملائكة السماء ملك البسيطة وسلطان الأرض، وتكاثر على شكرها كل من أرضى الله طاعته وأغضب من لم يرض من ذوي الإلحاد، ومن حاد الله له حاد، وممن ينتظر من هذه الأنفار إنجاز الإلحاد، فإنه بفتح هذه القلعة وتوقلها وحيازة ثغرها ومعقلها تحقق من سيحون وجيحون أنهم بعد فتح باب العراق تكسر أقفالها هذه القلعة، لا يرجون أنهم ينجون، وما يكون بعد هذا الفتح إن شاء الله إلا فتح المشرق والروم، وملك البلاد من مغرب الشمس إلى ملك مطلع الإشراق، والله يؤيده ويعضده، وكتب في يوم الفتح المبارك سنة إحدى وتسعين حسب المرسوم الشريف.
وقال بيبرس في تاريخه: واجتهد الأمير علم الدين الشجاعي في فتح هذه القلعة اجتهادا عظيما، وعمل سلسلة عظيمة وعلقها قريبا من شراريف القلعة، وطرفها واصل إلى أسفل الربض، فكانت الجند يستمسكون بها ويصعدون فيها، فارتقى فيها جماعة من العسكر وفيهم شخص من أوشاقية الأمير بدر الدين أمير سلاح يسمى اقجبا، فقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء حميدا، والسلطان ينظر إليه، والعسكر يثنون عليه، فرسم له بتشريف وإمرة، فسأل أمير سلاح أن تكون الإمرة لولده محمد، فأعطى إقطاعا وطبلخاناة، ثم تتابعت العساكر في تلك السلسلة فكانت حيلة إلى القصد موصلة، فملكوا القلعة، وطلعتها السناجق بسرعة، وقتل من وجد فيها من المقاتلة، وسبى النسوة والعائلة، ووجد بها بطرك الأرمن فأخذ أسيرا.
ثم إن السلطان بعد ما فتح الله عليه ونصره رجع إلى حلب، فأقام بها بقية رجب وشعبان، وفي تلك الأيام أصاب الجمال مرض مميت، فأباد أكثرها حتى جافت الوطاقات وأنتنت الطرقات، ولم يبق لأكثر العسكر شيء تحمل أثقالهم، فحملوها على بغالهم.
وعزل السلطان شمس الدين قراسنقر عن نيابة حلب، ورتب فيها سيف الدين بلبان الطباخى نائبا، عوضا عن قراسنقر، وجعل عز الدين الموصلي مشدا فيها.
ثم رحل عنها إلى دمشق، فصام بها رمضان وعبد بها عيد الفطر، كذا ذكره بيبرس في تاريخه.
وقال ابن كثير: عزل قراسنقر عن نيابة حلب واستصحبه معه، وولى موضعه على حلب سيف الدين بلبان المعروف بالطباخى، وكان نائبا بالفتوحات، وكان بقلعة بحصن الأكراد، فعزله وولى موضعه عز الدين أيبك الخازندار المنصوري، ثم رحل إلى دمشق بكرة يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان، وصام بها شهر رمضان، وعيد عيد الفطر.
وفي ليلة العيد هرب حسام الدين لاجين الذي كان نائبا بدمشق، وكان السلطان قد اعتقله وهو على حصار عكا كما ذكرنا، ثم أفرج عنه في أوائل هذه السنة، وسار مع السلطان إلى قلعة الروم وعاد معه إلى دمشق، فلما وصل إليها استوحش من السلطان وهرب منه إلى جهة الغرب، فقبضوه وأحضروه إلى السلطان، فبعث به إلى الديار المصرية، فحبس بها، وقبض على ركن الدين طقصو لأنه صهره على ابنته، ولأنه تكلم في حق الأمير بدر الدين بيدرا، فلما قبض عليه بعث به إلى قلعة الجبل، فاعتقل بها.
وذكر في النزهة: أن السلطان لما طلب أن يقبض على حسام الدين لاجين ما وجده، وكان قد علم من السلطان أنه يقصد مسكه، فهرب وحده، وخرج من بين يدي السلطان بعد أكل السماط، وقال لمماليكه، روحوا أنتم، وطلب طريق صرخد، فلما علم السلطان بهروبه أركب سائر مماليكه وقال: لو وصلتم إلى الفرات لا تردوا إلا به، وطلب السلطان أن يركب خلفه فمنعه بيدرا وقال: يا خوند إش يقال، يقول الناس السلطان بنفسه يستحث مملوكه، وطلب والي البر ووالي المدينة وأمرهم بالمناداة عليه ومن أحضره كان له ألف دينار، ومن أخفاه شنق، احتيطت المدينة، ولم يتهن أحد بالعيد، فرجع الأمراء ولم يقعوا به ولا وقفوا على أثره، فبطق السلطان إلى سائر الأقاليم، وكتب لسائر العربان بسبيه وبالاحتفاظ على الطرقات، وبقى السلطان في قلق من جهته، فأقام ينظر خبره إلى أن وقعت بطاقة من جهة الشريفى والي البر أنه قبض لاجين من صرخد وهو واصل به، ففرح السلطان بذلك فرحا عظيما.