واعلم أن قلعة الروم هذه كانت فتحت أيام الصحابة رضي الله عنهم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلحا، واستمر بها أهلها، لأن الصحابة أبقوا كنائس كثيرة على أن يؤدوا الجزية ويطالعوا المسلمين بالأحوال. ذكر تلك البلاذرى وغيره.
وذكر صاحب حماة في مختصر تاريخه الذي سماه: الحدائق والعيون: أن السلطان نور الدين الشهيد توجه إليها في سنة تسع وستين وخمسمائة، فتقبل خليفة الأرمن بحمل خمسمائة ألف درهم على سبيل الجزية، فرجع.
واسمها بالأرمنية هروم كلين، وتفسيره بالعربي قلعة الروم، وكانت هذه القلعة كرسي مملكة الأرمن وبها خليفتهم واسمه الكيثاغيكوس، وكان قد عدى المائة سنة، وكانت في حكم التتار ولهم بها شحنة، أسر في جملة الأسرى، وكان بها على المسلمين أعظم نصرة.
وصفتها: أنها كانت قديما ثلاث قلاع صوامع على سن جبل بين جبال، ثم حصنها الأرمن بأسوار قد احتفل بانيها بتشييدها غاية الاحتفال، ما رمقها طرف إلا بهت لعلوها وسها، ولا تأملها متأمل إلا وطن شرفاتها الأنجم وقلتها السهى.
وهي من أحصن القلاع وأعظمها في الارتفاع والامتناع، ولا يتوصل إليها إلا من طريق صعبة المرتقى لا يستطيع الفارس سلوكها، وبحر الفرات جار من تحتها، ولا منزلة لمن ينازلها إلا في لحفها.
وهي بين عقاب صعاب كما قال الشاعر:
عقاب بها كل العقاب ومحجرٌ ... كأني أمشى فوقه بالمحاجر
ويدور بها نهر يسمى نهر مرزبان، وبيوت أهلها مغاير منقورة في الجبل محكمة الصنعة.
وذكر في بعض التواريخ: أن المثال الشريف ورد إلى الأمير عز الدين أيبك الخازندار نائب السلطنة بمصر في الغيبة على يد الأميران السلاح دار وأقوش الموصلي الحاجب في بكرة الاثنين العشرين من رجب الفرد، وهو من إملاء القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر، وهذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم أدام الله نعمة المجلس العالي الأميري العزى، ولا برحت متلوة عليه آيات التأييد، واردة إليه بشائر ظفرنا التي يتجمل بحملها البريد، قادمة عليها التهاني، كم لحمائم الحمد في أفانينها من تغريد، تبشره بفتح ما خطر على بال أحد أنه يكون، ولا أن صعبه يهون، ولا أن نيله على غير عزائمنا الشريفة يقرب ولا في الوهم ولا أن الحظوظ تبلغ فيه من مرامها سهما، ولا أن الخطوب ترامى مراميه بسهم، وذلك لبعد مداه، وقوة قومه بالنفار المخذولين الذي تكفأ أكف عداه، وهو فتح قلعة الروم الذي بلغ كل من رمى من الأعداء بنصل النصر ما يروم، وفتح على التتار والأرمن أبوابا من البلاء، كان هذا لحصن على حافة الفرات قفلها المربح، وبطليعة كيدهم جواده الملجم المسرج، لأنه في بر الشام على جانب الفرات، والتتار المخذولون به حافون، وحوله صافون، ونافسهم عليها منا أشرف سلطان، جعل جبلها دكا، وحاصرها ألحقها بعكا، ونصبنا عليها عدة مناجيق تنقض حجارتها انقضاض النسور، وتقتنص الأرواح من الأجسام وإن ضرب بينها وبينهم سور، وتفترس أبراجها بصقور صخور افتراس الأسد الهصور، هذا والنقوب تسرى في بدناتها سريان الخيال، وإن كانت جفونها المسهدة وعمدها الممددة، وحفظها المجندة، ورواسيها على جبل الفرات موطدة، وقد خندقوا عليها خندقا جرى فيه الفرات من جانب ونهر مرزبان من جانب، ووضعها واضعها على رأس جبل يزاحم الجوزاء بالمناكب، وصفح صرحها الممرد فكأنه عرش لها على الماء، وإذا رامها رائيها اشتبهت عليه بأنجم السماء، وما زالت المضايقة تنقص من حبلها أطرافه، وتستدر بحيلها آخر الطرف وتقطع، بمسائل جلاد مقاودها وحلالها خلافه، ويورد عليها من سهامها كل إيراد لا تجاوب إلا بالتسليم، ويقضى عليها بكل حكم لا يقابل موته إلا بالتحكيم.
ولما أذن الله بالفتح الذي أغلق على الأرمن والتتار أبواب الصواب، والمنح الذي أضفى على أهل الإيمان من المجاهدين أبواب الثواب، فتحت هذه القلعة بقوة الله ونصره في يوم السبت حادي عشر رجب الفرد.