وأما قراقوش فإنه أيضا كتب إلى السلطان، وذكر فيه عن الوزير أمورا كثيرة، وأنه يحاققه على ألف ألف دينار أخذها من بلاد السلطان، وذكر فيه أشياء كثيرة من ذلك الجنس، وأرسل قاصده في السر مع نجاب إلى أن وصل إلى السلطان وسلم الكتاب للدوادار، فأوصله إلى السلطان فقرأه بحضور الوزير وحصل له من ذلك قلق عظيم.
وبعد أيام وصل كتاب أقوش للكاشف وكتاب نائب السلطنة، وكتب كتابه بجميع ما وقع بينهم بمحاضرة مثبوته على الحاكم، فكتب السلطان إلى نائبه بمصر أن يتحيل على قراقوش ويحضره إلى مصر، وكتب لقراقوش كتابا صحبة قاصده يتضمن شكرا وثناء، وأطمعه بأمور كثيرة توجب أطماعه في الحضور.
وعندما وصل الكتاب إليه ركب وطلب الحضور إلى مصر، فلما قرب إلى منية ابن خصيب أرسل النائب أيبك الخزندار، فأتى إليه وقبض عليه، وأوقع الحوطة على سائر موجوده، وبقى في الجب إلى أن حضر السلطان وخلع على الوزير، ورسم للأمير بكتمر السلحدار أمير جندار والأمير عز الدين أيبك الخزندار وغيرهما أن يخرجوا في خدمة الوزير ويحضروا قراقوش قدامه، ويقابل الوزير بالذي قال عنه، فخرجوا بعد المغرب وجلسوا على باب القلة، وأحضروا قراقوش من الجب وفي رجليه قيد ثقيل وهو يتململ من ثقله؛ والوزير جالس بين الأميرين والتشريف عليه، فلما وقف قامت له الأمراء وتحرك له الوزير قليلا.
فقال بكتمر السلحدار: يا أمير بهاء الدين السلطان يقول: أنت سيرت كتابك إلى عكا وذكرت فيه كلاما كثيرا عن هذا - مولانا الصاحب - وقد رسم أن تقول بين يديه الذي قلت عنه. فقال: نعم، وجميع ما قلته عن هذا هو بعض ما فيه وبعض ما فعله في بلاد السلطان، فقال الوزير: يا قطعه يا نخس تقول في وجهي هذا القول: فقال قراقوش: نعم يا قواد يا عامي يا كلب، وكم مثلك قد نلته بالمقارع، فكاد الوزير يتمزق من الغيظ فنهض قائما وصاح لمشد الدواوين والمقدمين: خذوا هذا النحس إلى خزانة شمائل، فأخذوه أشد الأخذ، وقام الأميران وهما يسبانه على إهانته للوزير في مجلسه.
فلما أصبحوا دخلوا على السلطان وعرفوه بجميع ما وقع من قراقوش في حق الوزير، فتبسم السلطان وقال: ما هذا إلا له نفس قوية، ورسم بإحضاره إلى بين يديه، وطلب مشد الدواوين، ورسم أن يحضر صحبته المقدمين بالمقارع، وقصد أن يقتله في مجلسه، فمنعه من ذلك الأمير بدر الدين بيدرا وقال يا خوند: ما جرت عادة بضرب المقارع في مجلس السلطان، وكان ذلك عناية به، فرسم أن يحضروه إلى باب القرافة ويضربونه خمسمائة مقارع، فأخرجوه بعد صلاة الجمعة إلى باب القرافة وعروه وضربوه فوق الأربعمائة مقرعة، ولم يتكلم بكلمة واحدة إلى أن رمى إلى جانب الحائط وهو عريان ولم يلتفت إلى كلام أحد، وبقى في السجن، وأخذ جميع ماله.
وما أمر بعمارته، وما أمر بوقفه: وفي هذه السنة أمر السلطان بعمارة الرفرف الظاهري الذي بقلعة الجبل وتوسيعه ورفع سمكه وتزيينه، فوسع وشيد وبيض وزخرف وصور فيه أمراء الدولة وخواصها، وعقدت له قبة على العمد، وبقى مجلسا للسلطان ولمن بعده من ملوك الزمان مشرفا على سوق الخيل والميدان الأسود وغيرهما.
وفي أوائل هذه السنة تكملت عمارة قلعة حلب، وكان قرا سنقر شرع في عمارتها في أيام الملك المنصور فتمت في أيام الأشرف، وكتب عليها اسمه، وكان قد خربها هلاون لما استولى على حلب سنة ثمان وخمسين وستمائة، فكان لبثها خرابا ثلاثاً وثلاثين سنة تقريبا.
وفي شوال منها شرع في عمارة قلعة دمشق وبناء الأدر السلطانية، والطارمة، والقبة الزرقاء، حسب ما رسم الأشرف لنائبه سنجر الشجاعي.
وفيها، زاد الشجاعي في الميدان الصغير تقدير سدسه من جهة نهر بردى، وعمل في عمارة حيطانه جميع الأمراء والجند وأكثر أهل دمشق، وعمل فيه الشجاعي بنفسه، ففرغ في يومين.
وفي رمضان، رسم الشجاعي أن يخرب جسر الزلابية والدكاكين التي عليه وخرب جميع ما هو مبني على نهر بانياس ونهر المجدول، وذلك من باب السر إلى حد باب الميدان.
ورسم أيضا أن لا يمشي أحد بعد العشاء بدمشق، وأن تغلق الدكاكين بسرعة، وكان الأعوان يدورون بعد العشاء ويمسكون من يجدونه بعد العشاء، وحبس بسبب ذلك خلق كثير، فاجتمع الناس وشكوا من ذلك، فأطلقهم.