وفي هذين البيتين إشارة إلى أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لما نازل عكا وحاصرها طمع في أخذها لأنه كان وقف على كتاب يذكر فيه أن السلطان صلاح الدين يفتح عكا ويخربها ولا تعمر بعده، فنزل عليها وحاصرها وتسلمها يوم الجمعة في شهر جمادى الأولى من سنة ... ... ورحل عنها بعد ما صارت في ملكه وقصد أن يخربها، فحصل له عارض وأقامت أياما قليلة ورجعت الإفرنج إليها وأخذوها، فصارت في أيديهم، ثم أخذها صلاح الدين الملك الأشرف وأخربها وجعلها دكاً.
وأنشد أبي غانم بيتين عند فتح عكا في هذا المعنى وهما:
مليكان قد لقبا بالصلاح ... فهذا خليل وهذا يوسف
فيوسف لا شك في فضله ... ولكن خليلٌ هو الأشرف
ومن نظم شمس الدين ابن الصائغ:
يا أشرف الدنيا تهن فإنه ... فتحٌ سواك بمثله لم يحلم
أشبهت معتصم الخلافة همةً ... فالروم منك ديارها لم تعصم
قاتلت بلق جيوشهم بسوابق ... غر عليها الريح لم تتقدم
كم رعتها بسواد ليل أليل ... وصدمتها ببياض يوم أيوم
وأعدتها للمسلمين ولم يكن ... منهم يرى التطهير إلا بالدم
فالجمعة الغراء كان صباحها ... وجه الزمان بمثله لم يرقم
كان هذا الرجل من الظاهرية، وكانت له نفسٌ قوية، وأخلاق شرسة، وهو معروف بالفروسية، وكان قد ولى قوص في الدولة المنصورية وبقى إلى أن أتت الدولة الأشرفية، وكان الصاحب ابن سلعوس يكتب إليه كتابا لأجل المهمات، ولم يكن يكترث بأمره ولا يحسن في جوابه، فشاور السلطان على عزله، فأمر بعزله، فقالوا: هذا رجل قوي النفس، فإذا بلغه العزل ربما سد حال الوجه القبلي، وهو قد قويت نفسه بالعرب والسودان، ولا يعزل هذا إلا بالتحيل عليه، فوقع اختيار السلطان والوزير على توليه أقوش الفارسي، وكان في طبقة قراقوش في الحمق الكبرياء، فولاه كشف الوجه القبلي، وأعلمه بما قصده من القبض عليه عند ملاقاته، فإذا قبض عليه يرسله مقيدا.
فتجهز أقوش وخرج في جند كثيرة، وبلغ قراقوش اتفاقه مع الوزير على القبض عليه، فكتم أمره في نفسه إلى أن وصل أقوش إلى قريب قوص، ولما علم بنزوله طلب مماليكه مع الوافدية المركزين في قوص وأخبرهم أن هذا الكاشف حضر للقبض عليه من غير مرسوم السلطان، وليس معه إلا مرسوم الوزير، وأنا أريد أن أقبض عليه وأخليه عندي وآخذ جميع ما معه فأنفقه فيكم، وأبعث إلى السلطان وأعرفه بذلك، فإن أنكر فعلى عصيت مع أبي الكنز وأقطعت قوص لكم بأمريات، وأطمعهم بأشياء كثيرة، واستمال عقولهم، فوافقوه على ما قال.
وفي ذلك الوقت وصل كتاب أقوش يذكر فيه العتب وبعض الإنكار لكونه وصل إلى محل ولايته ولم يركب إلى لقائه، فلما قرأ كتابه طلب قاصده وسبه وقال: من هو أستاذك حتى أركب أنا إلى لقائه؟ فأتى إلى أستاذه وأخبره بما جرى له معه، وبلغه أيضاً اتفاقه مع الوافدية والعرب، فعند ذلك طلب الحاكم وبعض الشهود وقال لهم: اذهبوا إليه واشهدوا عليه أنه قد ورد عليه الكاشف ومعه مرسوم السلطان، فأبى أن يحضر، فجاءوا إليه وتلطفوا في أمره، ولم يزالوا حتى وافقهم على الركوب إليه، والاجتماع به، والوقوف على كتاب السلطان، وهو مع توافقه على ذلك قال لهم: متى أرى معه أمرا لا يليق أوقع العتبة، فخلفوا له أن مأثمه الأخير، ثم أتوا إلى الكاشف وعرفوه بما جرى وأنهم ضمنوا له أن لا تكون فتنة ولا تشويش.
ثم بعد ذلك أقبل قراقوش في طلب عظيم، فقام إليه أقوش وتلقاه وأقعده فوقا منه، وشرح في عتبه باللطف، فأخذ قراقوش يعتذر إليه، ثم أخرج أقوش كتاب السلطان بحضور القضاة والشهود وفيه القبض عليه، فعند ذلك قام ولم يلتفت إليه، وقال: هذا شغل ذلك النحس الوزير والسلطان ما رسم بهذا، ولم يقدر أحد يتعرض إليه.
ورجع أقوش فوجد السلطان قد خرج إلى عكا والوزير معه، فكتب بما وقع له، وأرسل مع الكتاب المحاضر التي كتبها الشهود بسبب الاتفاق الذي ذكرنا.