وعند استقراره خلع على الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة، وعلى الصاحب شمس الدين ابن سلعوس وسير له ألف دينار.

ولما وصل السلطان القلعة نثر على السلطان الذهب والفضة، وعلى الأمراء الماورد من جانبي الناس.

ويقال: ما مر السلطان على قلعة من تلك القلاع إلا ونثر عليه الذهب والفضة، ولما بلغ بين القصرين عند دار البيسرى - وكان البيسرى معتقلا - وقف مملوكه مغلطاى ومعه أولاد أستاذه، وعمل بأرقابهم مناديل، وعندما عاينوا السلطان قبلوا الأرض جميعهم، وكانوا ست بنين، وكان مملوكهم مغلطاى قد تحدث مع الأمراء في الشفاعة في مخدومه، ولما رآهم السلطان قال: من هم هؤلاء؟ قالوا: يا خوند هؤلاء مماليكك أولاد البيسرى، وتحدثت الأمراء، فقال السلطان " طيبوا قلوبكم، الساعة أخرجه لكم، ثم لما طلع القلعة أمر بإخراجه، وأرسل إليه تشريفا إلى السجن صحبة الأمير عز الدين الأفرم أمير جاندار والأمير بغدى الدوادار، ورسم له أن يلبس التشريف ويدخل إليه، فامتنع من ذلك والتزم يمينا أن لا يدخل عند السلطان إلا في قيده ولباسه الذي كان عليه في السجن، فدخل على هذه الهيئة، ففك قيده بين يديه، ثم لبس التشريف وباس الأرض؛ فتلقاه السلطان أحسن ملتقى وأكرمه وطيب خاطره، وأمر له بإقطاعه التي كانت بيده تقدمة ألف وزاده عليها منية بني خصيب، وكتب منشوره وحمل إليه في كيس أطلس، وهذه نسخته: الحمد لله على نعمه الكاملة، ومراحمه الشاملة، وعواطفه التي أضحت بها بدور الإسلام بازغة غير آفلة، أحمده حمدا يعيد سالف النعم، والكرم الذي خص وعم. وبعد: فإن أحق من عومل بالجميل، وبلغ من مكارم هذه الدولة القاهرة الرجاء والتأميل، ومن إذا ذكرت أبطال الإسلام كان أول مذكور، وإذا وصفت الشجعان كان إمام كل شجاع مشهور، وإذا تزينت سماء الملك بأنجم كان بدرها المنير، وإذا عد أولو الأمر كان أول مشير، وكم تجملت فيه المواكب بأعلى قدر، وترتبت المراتب به لأنه بدر، وهو المقر الأشرف العالي البدري بيسرى الشمسي الصالحي العجمي الملكي الأشرفي، فهو الموصوف بهذه الأوصاف والمدح، والمعروف بهذه المكارم والمنح، فلذلك رسم أن يفرج عنه في هذه الساعة من غير تأخير.

وكان له نهار عظيم بالمدينة لأنه نزل والمدينة مزينة، وفرحت الناس به، وكان له في الاعتقال عشر سنين وأشهرا، ولما نزل إلى بيته أرسل له السلطان أربعين فرسا منها عشرون أكديشيا، وأمر لسائر الأمراء أن يقدموا له، فقدموا له، وحظى عند السلطان حتى كان لا يفارقه السلطان ويخلو به، ويحدثه في سائر أموره: هزله وجده، وصار يوالى عليه الإنعام في كل وقت.

ونظمت شعراء كثيرون في فتح السلطان هذه القلاع، فمن ذلك ما نظمه شهاب الدين محمود:

الحمد لله ذلت دولة الصلب ... وعز بالقول دين المصطفى العربي

هذا الذي كانت الآمال لو طلبت ... رؤياه في اليوم لاستحيت من الطلب

ما بعد عكا وقد هدت قواعدها ... في البحر للشرك عند الدين من أرب

كم رامها ورماها قبله ملكٌ ... جم الجيوش فلم يظفر ولم يصب

لم ترض همته إلا الذي قصدت ... هجر عنها ملوك العجم والعرب

فأصبحت وهي في بحرين مائلة ... ما بين مضطرم النار ومضطرب

جيشٌ من الترك ترك الحرب عندهم ... عارٌ وراحتهم ضربٌ من الوصب

وأطلع الله جيش النصر فانتشرت ... طلائع النصر بين السمر والقضب

أجرت إلى البحر بحرا من دمائهم ... فراح كالراح إذ عرفاه كالحبب

بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت ... بك الممالك واستعلت على الرتب

لقيتها يا صلاح الدين الدين معتقدا ... فإن ظن صلاح الدين لم يخب

أدركت ثأر صلاح الدين إذ عصيت ... عنه لسر طواه الله في الكتب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015