ولما استقر ركابه دخل إليه الوزير وعرفه أن دواوين الشام قد حصلوا أموالا كثيرة، فاستأذن في مصادرتهم، فأذن له أن يفعل ما شاء، فأول ما دق في تقي الدين توبة التكريتي ناظر الشام، مع أنه كان هو الذي أوصله إلى الأشرف كما ذكرنا، وكان له عليه إحسان كثير، فلم يعرف ذلك، وأقامه من مجلسه وأهانه، وكذلك فعل بالأمير شمس الدين الأعسر شاد الدواوين بالشام، وبجماعة من المباشرين من أكابر دمشق، وأخذ خطوطهم بمبلغ سبعمائة ألف درهم، وأول من وضع خطه التقي توبة والأعسر الشاد، وخافت الدماشقة منه، وقالوا: إذا كان فعله مع مثل التقي توبة الذي هو أوصله إلى خدمة الأشرف وأنه نشره فكيف يكون مع غيره؟ فتعاظم في هذه الأيام، واحتجب عن الناس، وصار يركب في موكب عظيم وسائر القضاة وغيرهم يركبون في خدمته.
قال صاحب نزهة الناظر: أخبرني شخص من الدماشقة أنه كتب له كتابا فيه أبيات، وكتب العنوان: المملوك الناصح، فقدمه إليه ورجع، وهو مختفى، فلما فتحها وجده ورقا أبيض ليس فيه غير أبيات ثلاثة، فعلم أنه مكيدة في حقه وهذه هي الأبيات:
لا تغبطن وزيرا للملوك ... وإن أناله الدهر منها فوق همته
واعلم بأن له يوما تميد به ... الأرض الوقور كما دانت لهيبته
هودا وهو أخو موسى الشقيق ... له لولا الوزارة لم يأخذ بلحيته
فلما وقف عليه طواه ولم يطلع أحدا عليه، وبعد أيام قام الأمير بدر الدين بيدرا والشجاعي في حق التقي توبة وعرفوا أن لهذا خدمةً كبيرةً على الأمراء المتقدمين في خدمة الشهيد، وأنه قديم الهجرة، ومازالوا به إلى أن رسم بالإفراج عنه، وعن بقية المباشرين، وسكن ابن السلعوس عن الدماشقة بعد ذلك.
وكان السبب لذلك أنه كان من المماليك المنصورية، معروفا، بينهم بالفروسية والشجاعة، وكان قد أصيب بسهم في عينه، فبقى بفرد عين، وكان لا يعرف له مزح ولا لعب، ولم يكن أحد من خشداشيته يقدر على المزح معه، وكانوا عرفوا الأشرف خلقه ووسوسة طبعه وتفرده عن الناس، وحكوا له عنه حكايات، وكان يوما واقفا بين يدي السلطان، فأراد السلطان أن يفتح معه باب المزح، فأشار إلى أحد من خاصكيته أن يقف خلف أرجواش ويدس يده في مخرجه؛ ففعل ذلك، فالتفت إليه أرجواش ولكمه وأرمى كلوتته، وحط يده في قائم سيفه، فصاح السلطان عليه، وبدا عليه الضحك، فقال له: ويلك، تلكم مملوكي: ماذا فعل بك؟ فقال: نحن ما تعودنا بشيء من ذلك ولا رأيناه، ولكن صرنا في آخر زماننا مسخرة، فغضب السلطان من ذلك غضبا شديدا، ورسم بأخذ سيفه، وضربه به ضربا مؤلما، ورسم بالحوطة على موجوده، واعتقل بالقلعة، وحملوا من خزانته نحو سبعين ألف درهم وثلاثة آلاف دينار، وباعوا سلاحه وقماشه إلى أن تكمل جميعه مائتين وستين ألف درهم.
ثم لما عزم السلطان على السفر إلى مصر خلائق لا يحصى عددهم، ولم يبق أحد في المدينة إلا وقد أخذ جانبا للتفرج منه، فلما وصل السلطان إلى المدرسة المنصورية ترجل وطلع إلى قبر الشهيد، فوجد هناك القضاة وسائر أرباب الوظائف من الفقهاء والعلماء والقراء والمؤذنين، وتلقوه بالدعاء، وشرعوا في القراءة بين يديه، ثم أخذوا في الدعاء له ولوالده الشهيد، ولما فرغوا من القراءة والدعاء قام ابن العنبري الواعظ وصعد المنبر، وكان قد رتب قصيدة يذكر فيها أمر الغزاة والجهاد في سبيل الله، فلم يرزق فيها سعادة، ولا فتح عليه منها فتوح، وأول ما تكلم بعد قراءته القراءة قال:
زر والديك وقف على قبريهما ... فكأنني بك قد نقلت إليهما
وكان السلطان ذكيا، ففهم معنى شعره، فما وصل إلى آخر البيت حتى نهض السلطان قائما، وسائر الناس معه، والتفت إلى بيدرا كالمغضب بسببه، وقال: ما لقى هذا غير هذا القول فقال له بيدرا: يا خوند هذا الرجل ما في الدنيا مثله في الوعظ، ولكن ما رزقه الله سعادة في هذا الوقت، ثم ركب السلطان من المدرسة إلى أن خرج من باب زويلة، وسائر الأمراء في خدمته، ولم يكن أحد راكبا غير الأمير بدر الدين أمير سلاح، وعند خروجه من الباب مسك عنان الفرس، ورسم للأمراء بالركوب، ومشت الخاصكية إلى القلعة.