قال الراوي: ثم رسم السلطان للأمير علم الدين الدواداري الصالحي والأمير الشجاعي أن يقيما على عكا لتخريب أسوارها وأبراجها، ثم رحل السلطان عنها إلى دمشق، فشرع الشجاعي في تخريب عكا، ووجد بها كنائس داثرة قديمة، وفيها من البناء الغريب الذي لا يقدر على مثله، ووجدوا في بعض تلك الكنائس ناوساً من الرخام الأحمر مثل العقيق، ووجدوا في وسطه لوحا من رصاص كبيرا مكتوب عليه بالرومي، فاحتمله الشجاعي معه، وأخذوا من ذلك الناس قطع رخام، فلما وصلوا إلى دمشق أحضروا شخصا يعرف بالقراءة الرومية، فأخرج له ذلك اللوح مكتوب فيه: كتب في سنة اثنتين وعشرين ومائتين: وذكر فيه أنه يدوس هذه الأرض رجال من أمة نبي العرب، وهو نبي يظهر له دين وشريعة، ويكون دينه أعظم الأديان، وشريعته أعظم الشرائع، ويطهر الأرض من الكفر، وتبقى شريعته إلى آخر الزمان، وتملك أمته سائر الأقاليم من الفرس والإفرنج وغيرهما، وإذا دخلت السبعمائة ملكت أمته سائر بلاد الإفرنج.

ووجدوا أيضا على باب كنيسة مكتوبا قديما بالكوفي:

جمع الكنائس إن تكن عبثت بكم ... أيدي الحوادث أو تغير حال

فلطالما سجدت على أبوابكم ... شم الأنوف صحاحٌ أبطال

صبرا على هذا المصاب فإنه ... يوم بيوم والحروب سجال

ونقلوا من كنائس عكا رخاما عظيما إلى الغاية، وأبوابا كانت على كنائس مستجدة في عكا، وكان من جملة ما حمل منها إلى مصر باب كنيسة بقواعده وأعضاده وعوامده، وهو الآن مركب على باب المدرسة الناصرية، وحمل منه إلى دمشق شيء كثير، وإلى مصر أيضا.

قال الراوي: ولما علقت أبراج عكا وأضرمت فيها النار وتساقطت، عمل القاضي شهاب الدين محمود الحلبي كاتب الإنشاء هذين البيتين وهما:

مررت بعكا بعد تخريب سورها ... وزند أوار النار في وسطها وار

وعاينتها بعد التنصر قد غدت ... مجوسية الأبراج تسجد النار

واستشهد على عكا من الأمراء: علاء الدين كشتغدى الشمسي، وعز الدين أيبك المعزى، وجمال الدين أقوش الغتمى، وبدر الدين بيليك المسعودي، وشرف الدين قيوان السكري، والعزى نقيب الجيوش، وست مقدمين من الحلقة، وثلاثة وخمسون جنديا من الحلقة، وثلاثون من أجناد الأمراء.

وقال النويري: ولم تزل النصارى يعظمون هذه المدينة لأجل الناصرة وهي القرية التي خرج منها المسيح عليه السلام، وبها أيضا عين تسمى عين البقرة يزورها المسلمون والنصارى واليهود يزعمون أن البقرة التي خرجت لآدم للحرث خرجت من هذه العين.

وقال بيبرس في تاريخه: استنقذ الله عكا من أيدي المشركين على يد الملك الأشرف صلاح الدين، كما كان فتوحها أولا على يد صلاح الدين يوسف ابن أيوب، وأقامت بأيديهم مائة وثلاث سنين، لم ينهض أحد من الملوك الأيوبية ومن بعدهم من أرباب الدول التركية باسترجاعها، وكان استيلاء الفرنج عليها في الأيام الناصرية سنة سبع وثمانين وخمسمائة.

ذكر دخول الأشرف دمشق

بعد فتح عكا وما تجدد فيها بعد دخوله:

دخل الأشرف دمشق ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من جمادى الأخرى، وفي ميمنته وزيره ابن السلعوس، والجيوش المنصورة، وكان يوما مشهودا، ولم يبق أحد من أهل دمشق وما حوى من أهل البلاد إلا وقد خرج في موكب اليوم، وكل واحد في يده شمعة، وكذلك العلماء، والقضاة، والخطباء، والمشايخ، والنصارى، واليهود، وأقامت دمشق نحو شهر مزينة بالزينة المفتخرة، ووصل كرا كل بيت ودكان إلى قيمة كثيرة. وأول ما دخل دمشق الأسرى الذين كانوا استأسروهم نحو مائتين وثمانين أسيرا.

وكان الصاحب ابن سلعوس قد كتب إلى أكابر دمشق أن يجهزوا كل شيء حسن من الثياب الأطلس وغيرها، فبسطوها للسلطان من آخر ميدان الحصا إلى دار السعادة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015